في سوريا، كانت للجدران آذان. وكان الحديث حول أيّ أمر يتعلق بالسلطة من بعيد أو من قريب محرمًا. خلال ستين عامًا، سمعت عبارة “للحيطان آذان” تتردد أمامي عشرات المرات، خاصة من والدتي التي لا تقرأ ولا تكتب. وكان الناس حريصين على أن يصونوا لسانهم عن الكلام حتى لا يودي بهم إلى “بيت خالتهم”.
والمقصود بـ”بيت الخالة” في سوريا التهلكة، وهو كناية أو لقب يفترض أنه سرّي، ولكن الجميع كان يعرف أن المعني به جهاز الأمن والمخابرات.
رغم كل التحذيرات، ورغم حرص الناس على ألا تنصت الجدران إلى الأحاديث التي يتداولونها فيما بينهم، كان مصير عدد كبير منهم – البعض يقول إنه عشرات أو مئات الآلاف – الموت في السجون تحت التعذيب، وكل ذلك بسبب لسانهم الذي لم يصونوه.
قسم كبير من السوريين فضّل النزوح عن سوريا إلى مخيمات في دول الجوار، المحظوظ منهم وصل إلى أوروبا، حيث أصبح بإمكانه التحدث دون أن تصغي الجدران لما يقوله ويبوح به في جلسات خاصة. في أوروبا، لا تمتلك الجدران آذانًا. رغم ذلك، ومن خلال متابعاتي لما يجري هناك، وجدت أن قسمًا كبيرًا من اللاجئين السوريين استمروا في حذرهم، لأنهم كانوا يخشون تعرض أقربائهم وأهلهم الذين تركوهم خلفهم للملاحقة لينتهي الأمر بهم في “بيت خالتهم”.
هذه المقدمة المطولة للوصول إلى هذا السؤال: ماذا يفعل المثقف في بلد تمتلك فيه الجدران آذانًا؟ ماذا يفعل مثقف وفنان مهنته الحديث والكتابة، وكيف يسلم إن فعل ذلك وهو يعمل في حقل مزروع بالألغام؟
منذ اللحظة الأولى كان واضحًا أن المثقف في سوريا أمام ثلاثة خيارات: أن يرحل عن سوريا، وهذا ما فعله عدد كبير منهم، أو ينافق السلطات ليأمن شرها، أو ينتظر زوار الليل والنهار ليرموا به في “بيت خالته”.
قدر المثقف الذي يختار المواجهة أن يلقى العقاب الذي أنزله كبير آلهة الإغريق زيوس بـ”بروميثيوس” الذي تجرأ وسرق النار وأعطاها للبشر، بتقييده إلى صخرة وسلّط عليه نسرا يأتيه كل يوم ليلتهم كبده. العقاب كان يتجدد كل ليلة ليعاني من نفس العذاب في اليوم التالي.
وقد يكون ما جاء على لسان النبي محمد (توفي عام 632 ميلادي) “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”، أفضل ما يعبّر بإيجاز كبير عن إشكالية المثقف مع السلطة.
في سوريا، من حاول تغيير “منكر” السلطة بيده ألصقت به تهمة الإرهاب، ومن اختار تغييرها بلسانه، إما غادر خارج البلاد، أو انتهى الأمر به في حبس انفرادي. أما من كتموا الغضب والغيظ في قلوبهم، فقد تحملوا الاتهامات بأنهم عملاء للسلطة. والآن بعد سقوط النظام، يلقب الذين قاوموها بقلوبهم بـ”المكوعين”.
محاولة تصنيف البشر ممارسة عنصرية بشعة، وهي أشد بشاعة عندما تطبق على المثقف والفنان. الحكم على المثقف من خلال موقفه من السلطة، عدا أنه موقف جبان، هو موقف انتهازي غالبًا.. المثقف يدينه أو يتوّجه عمله فقط.
أتمنى ألا يقع المثقفون والفنانون في سوريا في فخ التصنيفات، وألا يضطر فنانون ومثقفون كبار للدفاع عن مواقفهم وتقديم تفسيرات لها، وألا يسارع من دخل السجون منهم أو غادر البلاد لانتهاز الموقف والمطالبة بنياشين تعلق على صدره.
شعرت بألم لا يقل عن مشاعر الألم التي انتابتني وأنا أراقب المشهد من داخل الزنازين، عندما شاهدت صدفة الفنان الكبير – كبير رغم أنوفنا جميعًا – دريد لحام، يقول ما أراد أن يقوله على مدى 60 عامًا “فروع المخابرات في سوريا كانت أكثر من المدارس،” وأن أكبر سجن في سوريا كان لأصحاب الرأي.
أريد أن أختم بمقولة تنسب إلى المؤرخ وعالم الاجتماع التونسي ابن خلدون (لا بد من الإشارة إلى أن نسبها إليه مشكوك فيه حيث لم يتم العثور على ذكر لها في أي من أعماله) المقولة هي: إذا دخلت أفريقية (تونس) وافق أو نافق أو غادر البلاد.
في سوريا، هناك مثقفون وفنانون نافقوا، وآخرون اختاروا مغادرة البلاد.. لكن، بالتأكيد لا يوجد مثقف حقيقي واحد أو فنان حقيقي واحد وافق على ما جرى داخل سوريا على مدى 54 عامًا.
معظم المهن يمكن القيام بها دون الاضطرار للحديث، أو الكلام فيها يقتصر على مصطلحات ومفردات تتعلق بالمهنة. لكن، ماذا يفعل مثقف أو فنان وسيلته الوحيدة للتواصل مع البشر القلم أو الكلمة المنطوقة.. ماذا يفعل في بلد للجدران فيه آذان وعيون؟
العرب