سيدخل ٢٠٢٤ التاريخ باعتباره العام الذى تحولت فيه أفكار تغيير خريطة الشرق الأوسط، وهى فى معظمها أمريكية وإسرائيلية، من سيناريوهات على الورق إلى بدايات واقع على الأرض.
عام ١٩٩٣، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق، شيمون بيريز، كتابا بعنوان: "الشرق الأوسط الجديد"، جاء فيه: "يتعين علينا أولا، وقبل كل شىء، أن نعترف بعُقم الحرب، فالعرب لا يستطيعون هزيمة إسرائيل فى أرض المعركة، وإسرائيل لا تستطيع إملاء شروط السلام على العرب. الحرب لا تحل أيا من المشكلات، أما السلام فهو الحل". اقترح بيريز أفكارا لإقامة نظام إقليمى على غرار الاتحاد الأوروبى ومشروعات تعاون لتحديث البنية التحتية للنقل والمواصلات وحل مشكلات اللاجئين وغيرها.
وبعد توسل بيريز بالتعاون الاقتصادى من أجل قيام هذا "المخلوق المجهول"، جاءت كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، لتعميده بالدم خلال العدوان الإسرائيلى على لبنان ٢٠٠٦، إذ قالت: "آلام هذه الحرب هى الولادة القاسية للشرق الأوسط الجديد". لم يتحقق شىء، لا بالقوة ولا بالسلام، خلال السنوات التى تلت. راوحت الأمور مكانها، ونسى كثيرون أفكار التغيير الكبرى. ثم جاءت هجمات حماس فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وما تلاها من عدوان إسرائيلى وحشى على غزة ثم لبنان لنصل إلى الحدث الأهم.. سقوط نظام الأسد، ليتجدد الحديث عن تغيير الخرائط وموازين القوى، وهذه المرة أيضا، كانت الأفكار أمريكية وإسرائيلية، لكن رافقتها تغيرات فعلية جعلت التصريحات استجابة للتطورات الخطيرة على الأرض، وليس مجرد تمنيات.
"الطبيعة تمقت الفراغ.. هناك حاليا فوضى إقليمية فى الشرق الأوسط، ومن المؤسف أن إسرائيل الكبرى هى البديل للفوضى".. هذه هى رؤية روبرت كابلان، المفكر السياسى وأستاذ الجغرافيا السياسية الأمريكى الشهير، لما سيحدث فى المنطقة خلال السنوات القليلة المقبلة. يطرح كابلان، فى دراسة حديثة له، سيناريو شديد العنصرية والانحياز لإسرائيل. يقول إن مشكلة سوريا الكبرى، التى تمتد من جبال طوروس جنوب تركيا إلى شمال صحراء الجزيرة العربية، وتضم سوريا ولبنان والأردن وجزءا من العراق، لم يتم حلها بعد، رغم أنها نشأت قبل أكثر من قرن، وتحديدا مع زوال الإمبراطورية العثمانية التى منعت، ولو شكليا، الفوضى بتلك المنطقة شديدة التقلبات كثيفة المشاكل. حاول الاستعمار البريطانى والفرنسى السيطرة عليها من خلال الانتداب. فرنسا أنشأت سوريا دولة مبتورة جرى سلخ لبنان عنها، والبريطانيون سيطروا على فلسطين والعراق وأقاموا الأردن.
كان ما جرى استعمارا، يقول كابلان، لكنه قدم ما يشبه النظام، إذا لولاه لحدثت فوضى عارمة. ثم جاء الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية لكن بدلا من الديمقراطية أو حتى الديكتاتوريات المستنيرة، كان هناك واقع كئيب تجسد فى "جمهوريات موز" مولودة حديثا ومعرضة للانقلابات المتكررة. سوريا شهدت ٢١ تغييرا فى الحكومة جميعها تقريبا خارج القانون، بالإضافة إلى ١٠ انقلابات عسكرية. انقلاب حافظ الأسد عام ١٩٧٠، الذى أنتج نظاما وحشيا مدعوما بتكنولوجيا الأمن والتعذيب السوفيتية، أرسى الاستقرار لفترة من الزمن. أما العراق، فحكمته سلسلة من الديكتاتوريين غير الأكفاء ليصل الأمر إلى الديكتاتور الأسوأ صدام. لبنان انهار فى حرب أهلية عام ١٩٧٥، ولم يتعاف إلا فى التسعينيات بفضل سيطرة سوريا. لم يكن هناك أى حل وسط للسياسة فى تلك الدول، فهى إما يحكمها سلطان أو زعيم من الخارج، أو السيف وغرفة التعذيب من الداخل.
بهذه الخلاصة، يمهد كابلان لرؤيته. سوريا الكبرى الآن فى حالة فراغ. إيران ملأته لفترة لكن نفوذها تلاشى نتيجة العدوان الإسرائيلى وسقوط حليفها فى سوريا. روسيا تم إضعافها أيضا. الصين مهتمة بالتجارة وليس النفوذ العسكرى والسياسى. أمريكا لم تعد لديها شهية العمل شرطيا بالمنطقة. هناك فقط إسرائيل التى تمتلك الوسائل العسكرية ولديها مصلحة فى القيام بهذا الدور الإمبراطورى. سيكون لها وجود عسكرى لفترات غير محددة فى الضفة وغزة. لبنان لن يتمكن مطلقا من الدفاع عن أرضه مما يترك للإسرائيليين السيطرة ومراقبة جنوب لبنان. إسرائيل لن تحتل سوريا لكنها ستتدخل عسكريا واستخباراتيا لحماية مصالحها. يدعى كابلان أن إسرائيل الكبرى ستوفر ما يشبه النظام بالشرق الأوسط حيث لا توجد طريقة أخرى لتوفير ذلك.
لا يتحدث المنظر الأمريكى، الذى يتم الاستماع باهتمام لآرائه فى البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية، عن دور عربى أو حتى مشاركة عربية. يقول: "إسرائيل لن تكون بديلا للإمبراطورية العثمانية لكنها قد تكون بديلا لعصر جديد من الفوضى فى سوريا الكبرى". بعد أن كانت إسرائيل السبب الرئيسى فى الفوضى، هناك من يقدمها الآن شرطيا يعيد الأمن والاستقرار.
المصري اليوم