الضمير العالمي.. وازدواجية المعايير

من يسعَ لوحدة الضمير العالمي في التصدي للظلم فسيظل محتاراً في استحالة تحقيق أهدافه، هذه حقيقة اكدتها تجارب الشعوب منذ بداية الحياة، فلا يمكن التوصل الى وقفة عالمية جماعية في رفضها للبشع والقبيح من المواقف، هكذا أحكام الحياة، فمن المستحيل الوصول الى إجماع عالمي في التصدي للقبيح في هذه الدنيا، ورغم ذلك نقرأ التمني في ختام كل لقاء عالمي جماعي معبراً عن الاسف لغياب الاجماع.

أستطيع التأكيد بأن صرخة الاستغاثة من ازدواجية المعايير لم تصدر بسبب أحداث الأمس، بل هي حقائق حياتية رافقت البشر منذ بروز واقع الكون الذي كانت الدولة الوطنية أبرز نتائجه، ومنها تولدت تجمعات لكل هوية تحولت إلى دول مستقلة، أولوياتها التمسك بالحياة وترتيب آليات وسائل تحافظ على كيان الدولة وتصون استقلالها، وبأي وسيلة، فإذا قلت الإمكانات فلا مفر من البحث عمن يساعد ويساند في الحفاظ على الهوية من غزو الآخرين، من الجوار أو من تهديدات البعيد...

نبعت فكرة التحالفات من تشابه المصالح ومن الواقع الجغرافي، ومن تلاقي الأفكار ومن الوحدة في الدين وفي الثقافات، ومنذ الحرب العالمية الأولى، سعت الأسرة العالمية إلى اتفاق جماعي يحترم الهوية ويلتزم احترام الحدود ويعترف بحقوق كل شعب لاختيار نظامه، ومن تجارب العالم في الحرب العالمية الثانية، تحولت المساعي إلى الاتفاق على قواعد تنظم العلاقات بين الدول وتحترم الهوية وحقها في الحفاظ على الاستقلال، ومنها جاء ميثاق الامم المتحدة، ليعالج واقع العالم الذي جاء منه نظامان مختلفان، أحدهما صاغته الثورة الروسية عام 1917، والآخر جسدته الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، بينما كانت آسيا وأفريقيا تناضلان للاستقلال عن الاستعمار الأوروبي.

وكمثال، أشير الى ما جاء في البيان الختامي للقمة العربية – الإسلامية، التي عُقدت في المملكة العربية السعودية منذ أشهر، الذي يعبر عن حقيقة واقع ثقيل لن يختفي من مناخ السياسة العالمي، وستبقى الأسرة العالمية تشكو من ظلم المعايير.

والحقيقة أن البيئة التي أفرزها النظام العالمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية جاءت من غلاظة الازدواجية في المعايير، وتجاهلها لحقوق الشعوب وعنصريتها في التفرقة بين البشر، فالبعض يحق له السيادة، والآخر يطيع ما تريده هذه النخب، وترجمة لهذه الحقيقة تمكن الاتحاد السوفيتي من السيطرة الكاملة على شرقي أوروبا، وربطها بتنظيم يخدم مصالحه ويوفر له كامل النفوذ على سياسة هذه الدول.

عشت شخصياً في الأمم المتحدة عشر سنوات، وعشت الآلام التي تأتي من ازدواجية المعايير، ورأيت في حياة الأمم المتحدة أقبح الأوضاع المسرحية في مسار السياسة العالمية، خاصة بعد انقسام العالم إلى كتلة اشتراكية والمجموعة الغربية، ومجموعة عدم الانحياز، ودول العالم الثالث.

لم تكن قضية فلسطين وحدها التي تتعرض لازدواجية المعايير، بل كل شيء في الأمم المتحدة يعاني من هذه الازدواجية، فليس في هذا العالم تجمع ملائكي ملتزم بالعدالة ومضحٍّ للإنصاف ومدافع عن نقاوة الضمير العالمي وصفائه، فلا يمكن أن يدعي أي طرف بأنه سخر حياته للعدالة والانصاف، فالأمم المتحدة تجمع دولاً تديرها في المواقف عناصر عدة، أهمها الجغرافيا ومواقع الدول، وتأثير هذا الواقع الجغرافي على سياسة الدول وسلوكها، فإملاءات الجغرافيا تلعب دوراً مهماً في رسم سياسة الدول، كما أنه من أكبر العوامل المؤثرة في سلوك الدول هو ملف المصالح، فلا أولوية أخلاقية في موازين المصالح، فلا وجود للثقل الأخلاقي في ملف الترابط المصلحي بين الدول، ومن تجربة الكويت مع الغزو وقفنا على حقائق الترابط العربي الذي كان في تصورنا سيلتفت للكارثة التي حلت بنا، وتصورنا بأن علو القيم العربية سيخرج مندداً وصارخاً في وجه المعتدين الغدارين، فكانت إحدى عشرة دولة في ميزان المصالح مستصغرة صوت الضمير ومبعثرة معاني القيم، ومن ضمنها من هي من ضحايا الظلم العالمي الذي كان نصيبها في هذا الزمن.

لا أستطيع أن أدعي بأننا كمجموعة عربية او اسلامية أو عدم الانحياز كنا نضع القيم فوق المصالح ونذعن لنداء الضمير، فليس داخل مبنى الأمم المتحدة مَن يلعب دور الواعظ المتعفف.

كانت ثقافة أوروبا الشرقية والغربية أقسى الممارسين لازدواجية المعايير، كانت دول حلف وارسو الاشتراكية تصوت «عميانياً» مع ما تريده موسكو، وكانت الولايات المتحدة أقسى الأطراف في جفاف تصويتها وفي غلاظة تبريراتها، لكنها أقوى الدول في مواجهتها للخصوم الاشتراكيين، مع غياب شبه كامل في التعاطف مع الآخرين، بمن فيهم المجموعة العربية، فالموقف لا يتبدل مع تغييرات في البيت الأبيض، ويقترب الموقف البريطاني من التوجهات الأمريكية، وتبقى الدول الأوروبية بعضها إيجابية في دعمها للشعب الفلسطيني والأخرى تصوت ببرود.

وعند الحديث عن مقاطعة جنوب أفريقيا تتعاظم الازدواجية في المعايير، فالكل يدين النظام العنصري، لكن الاغلبية في أوروبا الاشتراكية والرأسمالية لا تلتزم المقاطعة وتحافظ على علاقاتها التجارية مع جنوب أفريقيا وتمدها بالسلاح.

اختارتني الدول الأعضاء في مجلس الأمن رئيساً للجنة التي شكلها المجلس لمقاطعة جنوب أفريقيا ومنع بيع السلاح لها، وأعترف بأن الجميع من دول أوروبا الاشتراكية والرأسمالية كانت تبيع السلاح للنظام العنصري، رغم أنها تصوت مع الأغلبية الساحقة التي تدين جنوب أفريقيا، هذه حالة الأمم المتحدة وهي ترجمة لواقع المصالح وقوة وهجها، كان مصدري في المعلومات من بيع السلاح الكنائس وجمعيات النفع العام الأمريكية والأوروبية، ولذلك فشلت الأمم المتحدة في منع السلاح عن جنوب أفريقيا، والسبب هو ازدواجية المعايير، سواء من موسكو أو واشنطن أو غيرهما من أوروبا ومن آسيا وأفريقيا.

وأجدد التأكيد على حقائق العالم، ستظل الدول جميعها تمارس النفاق، بعضها بغلاظة وبعضها بنعومة، فليس في هذا الكوكب من يدعي الكمال، هذه لوحة في مقال عن حقائق الأشواك والمطبات في مسارات هذه الدنيا.

لن ينظف العالم من تلوثات الضمير، فإملاءات المصالح والإصرار على ممارستها، وفق القانون، أمر مبهج ومريح للدول، ولكن الإصرار على الانتفاع وتحقيق المكاسب يدفع الدول إلى توظيف آليات الضغط والتهديد باستعمال العنف، ولن تتردد في اللجوء إلى جميع الوسائل لنيل المكاسب، وسيواصل العالم هذا النهج، فلن يتوقف السياق لنيل المنافع، وسيواصل العالم في انقساماته، وستبقى الهوة بين الضعيف والقوي، وبين العنيف والمسالم، فلن يتمكن رجال الدين وقساوسة الكنائس وحتى علماء الأديان من إدخال تبديلات على سلوك الإنسان وإفشال أطماعه، وما دام الإنسان مستمراً في الإدارة العالمية ستظل الحالة بكل تلوثاتها الأخلاقية مستمرة في مسيرتها من دون توقف، وستبقى سيطرة ازدواجية المعايير حية ومؤثرة.

القبس

يقرأون الآن