في كلٍ من لبنان وسوريا سلاسل من المشكلات لا يَدري أحدٌ أين طرفاها. فحتى نظام المحاصصة الطائفية، وهو مصدر الشكوى الرئيسي في لبنان، يراد إدخاله إلى سوريا تحت عنوان «حماية الأقليات»! وكأنّ النظام السابق كان طافحاً بالمساواة والمواطنة والإنصاف! قال لي «خبير» بالأنظمة الحاضرة في بلاد الشام: ليست هناك مخاوف من الأنظمة الأقلوية، لأن الأقلية لا تظلم الأقلية الأخرى، بل تحاول ضمَّها إليها سنداً في وجه الأكثرية.
أما الأكثريات فالمخوف ما كان دينياً أو إثنياً، ولا بأس بالأكثريات السياسية. قلت: ولكن ما كانت هناك أكثريات سياسية، بل تحكم العديدَ من بلدان المنطقة أقلياتٌ دينية ترفع شعارات القومية أو العلمانية! وعندما أُسقط نظام صدام حسين الأقلوي بهذا الاعتبار، رُفعت شعارات الأكثرية الطائفية، وجرى تقسيم السلطة بحسب النموذج اللبناني، مع وضع خاص للأكراد!
ولذا فلا معنى للمخاوف من الأكثرية الطائفية أو العددية، لأنها لا تحكم في أي بلد ما دامت الأكثريات السياسية التي تتطلب انتخابات حرة وبدون قيود دستورية (=قانون انتخاب) غير موجودة.في المدة الأخيرة جرت في لبنان وسوريا تغييرات راديكالية على الأرض أسقطت تحكّم الأقلية الشيعية في لبنان، وحكم الأقلية العلوية في سوريا.
وبسبب ضخامة المشكلات في البلدين على كل المواطنين، يكاد النظام السياسي أن يصبح غير ذي أولوية، بل الأهم مرحلياً الاستقرار، وأن لا يبقى سلاح إلا بيد الدولة، وأن يمكن الخروج من الأزمات الاقتصادية والمعيشية الطاحنة. وإذا أمكن السير نحو نجاح نسبي في التصدي للمشكلات المتراكمة، فإنّ الانفتاح نحو أكثرياتٍ سياسيةٍ يصبح ممكناً. يقول المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي: في أزمنة الأزمات الكبيرة لا يعود القديم صالحاً في حين لا يستطيع الجديد أن يُظهر معالمه.
وهذا هو الوضع في كلٍ من سوريا ولبنان. في لبنان اليوم نظامان يتصارعان: القديم الطائفي، والشيعي الأقلوي الذي تحكّم خلال أكثر من عقدين. أما القلة التغييرية فتراهما غير صالحين، وتبحث عن نظامٍ جديدٍ فيما وراءهما. والمؤيدون للنظام القديم يطلبون الترميمَ وحسب. وفي حين يعلن الأقلويون عن ضرورة الاحتفاظ بما كسبوه خلال عقدين وأكثر أو يكون هناك إخلال بالميثاقية! تحدي التغيير واستحقاقه مُلِحٌ في لبنان، وأهم بنوده التخلُّص من السلاح غير الشرعي، ليس في جنوب نهر الليطاني وحسب، بل وفي سائر أنحاء لبنان. والانصراف إلى تشكيل حكومة تستطيع تنفيذ ما اقترحه رئيس الجمهورية في خطاب القسم (أول خطاب بعد انتخابه)، وهو كبيرٌ وكثير لكن يمكن تنفيذه بالحكومة القادرة.
أما تحدي التخلص من السلاح فيحتاجُ إلى تسليم المسلحين أنفسهم لسلاحهم عبر ما صار يُسمَّى الاستراتيجية الدفاعية. أما في سوريا فالهموم كثيرة، وأولها الجماعة التي تدير النظام والبلاد الآن ومستندات شرعيتها. وثانيها القضاء والتلاعب به وكيف يمكن إعادة بنائه لإنفاذ العدالة الانتقالية. في عهد ميشال عون، انقطعت علاقة لبنان بالعالم العربي والعالم، ويحتاج الأمر حالياً إلى جهد للاستعادة، لأن لبنان يحتاج إلى مساعدات في إعادة الإعمار، والداعمون العرب يريدون شواهد على الجدية، فقد مضت أزمنة من دون جدية أو التزام.
وبين هموم سوريا نزع السلاح من المسلحين، ومعظمهم من تيارات مختلفة، وكلهم يُظهر تذمراً بقلة المناصب التي حصل أو سيحصل عليها. والمشكلة الكردية مشكلة خطيرة، ويزيدها تعقيداً رفض المسلحين حلَّ تنظيماتهم العسكرية. ولا تستطيع سوريا البدء بأي بناء والعقوبات على نظام الأسد تشلُّها.. فمتى يرفعها الأميركان والأوروبيون عنهم؟ إنها سلاسل أزمنة توتر وتوتير وتأزم، فمتى يخرج اللبنانيون والسوريون منها؟ وكيف؟
الاتحاد