دروس غزة.. وأوجاع العرب

لم تكن عملية "حماس" في السابع من أكتوبر 2023 روتينية عادية، مثل المغامرات التي اعتدنا عليها، لا في جرأتها ولا في أهدافها، فلم يذهب خيال الآخرين، من "فتح" والمنظمة وغيرهما، إلى ما قامت به مجموعة حماس في عبور الحدود لقاء مجتمع اسرائيلي جمع عدداً كبيراً في مناسبة استغلتها "حماس" في اندفاع غير مسبوق لا في إخراجه ولا في حصيلته، كانت مفاجأة تحمل اليقين بأن الرد الإسرائيلي سيختلف عن الاسلوب المعتاد، الذي تعرفه المنظمات الفلسطينية، اعتبرته اسرائيل إعلان حرب، ووظفته لشن عمليات تدمير وإبادة لكل مظاهر الحياة في غزة، ودون استثناءات في المباني أو في مواقع البشر، في عملية تواصلت من أواخر 2023 حتى نهاية يناير 2025، خلفت كارثة أصابت جميع أهل غزة، بما فيها مدارسهم ومستشفياهم وطرقهم، والأكثر خطورة أن اسرائيل تمكنت من شريك سيوفر لها التمتع بحصانة أمريكية دائمة، بالإضافة الى دعم أوروبي وحيادية الآخرين، وأكثر من ذلك استغلت اسرائيل هذا الدعم لترسم أهدافاً تجاوزت "حماس" في داخل الضفة الغربية، تاركة المستوطنين الاسرائيلين للقيام بعمليات التخريب والانتقام، مع تركيزها في انتقامها من "حزب الله" في لبنان، عبر اغتيال قيادته وتدمير قواعده وملاحقة أنصاره والقضاء عليه كطرف معادٍ، وأخراجه من جغرافيته، ونفي ما بقي منه إلى أبعد الأماكن، ورافقت هذه التوجه التدميري اعتداءات جوية على مواقع الجيش السوري، وملاحقة "حماس" وقيادتها في إيران وفي داخل سوريا، متجاوزة جميع المحرمات في عملياتها ضد شعب غزة، وطوعت التكنولوجيا بأسلوب عملي مبتكر أصاب إسماعيل هنية زعيم "حماس" وضيف إيران، كما لم تخف حجم كراهيتها لجميع قادة حماس ولقيادة إيران، تمثلت في هجمات تلاحقهم أينما كانوا في سوريا وغيرها، غير عابئة بواقع النظام السوري الجديد.

وبعد اتصالات كثيفة شاركت بها دول، تحمّلت أثقال المفاوضات المضنية للوصول الى وقف للعمليات العسكرية الاسرائيلية، كان نصيب كل من قطر ومصر من هذه المفاوضات كبيراً، جاءت هدنة مقبولة للطرفين، وبشروط تعبّر عن انخفاض الثقة بين جميع الاطراف، بدأ مفعولها يوم الاحد، 19 يناير 2025، مع احتمالات كبيرة لاختراقها وتجديد الغارات. هناك الكثير من الحقائق والعبر والدورس، التي يجب ان يهضمها الجانب الفلسطيني، وبالذات مجموعة حماس وشركائها في المواجهات.

أولا: أكدت حرب غزة وجنوب لبنان السيادة العسكرية الاسرائيلية على أجواء المنطقة، وقدرتها على تطويع التكنولوجيا لخدمة أهدافها العسكرية، وكشفت في تعاملها مع وقائع الحرب أنها القوة الضاربة في المنطقة، وقادرة على الوصول الى ما تريد، ومحصنة بترسانة حديثة في سلاح الجو، وفي فروع الجيش الاسرائيلي، مما زاد في حدة النزعة العدوانية المكثفة.

ثانياً: ليس من الانصاف أن تتوقع الاطراف الفلسطينية المعنية أن تتحرك الدول العربية في محاولة للتدخل، فلا مبرر للمشاركة في حرب، جاءت من عملية انتحارية، يعرف الجميع مقدماً حتمية الرد الاسرائيلي، فالدول العربية مشغولة بمسؤولياتها في بناء وطن يتماثل مع طموحهات هذه الشعوب، وفي توفير ما تحتاجه للمعيشة، مع تأكيد الاستقلال وتعميق الاستقرار.

ثالثاً: كشفت عملية حماس ضرورات التأكيد على وحدة المواقف الفلسطينية، بالإصرار على الحفاظ على منظمة التحرير الفلسطينية، الصوت الفلسطيني الوحيد المعبر عن إرادة الشعب، فقد أكدت جميع الدول العربية هذا الموقف تأميناً لوحدة المواقف الفلسطينية، مدركة مخاطر الانقسامات، التي تولدت منها جماعة حماس والجماعات الفلسطينية الاخرى، والحقيقة أن مقام منظمة التحرير تأثر كثيراً وسلبياً مع نتائج المخاطرة، التي خططت لها ونفذتها مجموعة حماس.

رابعاً: أبرزت عملية حماس ونتائجها حجم المساندة الأوروبية الغربية لإسرائيل، وخصتها بحجم كبير من التأييد والدعم، وهو ما يكشف ازدواجية المواقف لهذه الدول، فلم يحصل شعب فلسطين المكافح من التأييد الأوروبي ما حصلت عليه اسرائيل من تعاطف ودعم قوي من قيادات أوروبا، في سعيها للتخفيف من أثقال مفاجأة حماس، مؤكدة ترابطها الاستراتيجي مع اسرائيل.

خامساً: عمّقت حرب غزة اليقين بحتمية أقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، تضع نهاية مقبولة للأزمة المعقدة المستمرة منذ عام 1948، والحقيقة أن الجمعية العامة للأمم المتحدة تصوت سنوياً بدعوة لإقامة الدولة الفلسطنية في الضفة الغربية وغزة، لكن الموقف الامريكي المتأثر بالمخاوف المساندة لإسرائيل عطّل دعم مجلس الأمن، ولا تبدو احتمالات التغيير في الموقف الامريكي مع الادارة الجديدة.

سادساً: ترجمة لهذا التوجه العالمي لمصلحة إقامة دولة فلسطينية، فمن الضروري تأكيد الدعم للمبادرة السعودية لحل لمشكلة بإقامة دولة فلسطينية، مقابل الاعتراف المتبادل بين اسرائيل والدول العربية، ومن المهم تحقيق مساندة عالمية لهذه المبادرة، التي ستؤدي الى نهاية الازمة، إذا ما اقتنعت بها واشنطن، وسوقتها للحكومة الاسرائيلية، التي لن تحصل على القبول الجماعي العربي دون دولة فلسطينية.

سابعاً: لابد أن يتجدد التأكيد على تقوية وتنشيط دور منظمة التحرير الفلسطينية كصوت فلسطين الوحيد على المسرح العربي والعالمي، مع الإصرار على أن تثبت المنظمة قدرتها القيادية للقيام بهذا الدور التاريخي، الذي ينتظره العالم، ولاشك بأن الرئيس محمود عباس، الموجود في رام الله، عارف بهذه الحقائق.

كان دور المنظمة سابقاً هو توسيع تواجد المنظمة في مختلف العواصم، على حساب التواجد القيادي الفعال للشعب الفلسطيني، ولا ننكر أن الفتور القيادي من قبل المنظمة أدى الى تصاعد قوة المنظمات الفلسطينية الأخرى، التي عمّقت قواعدها في غزة. شعب فلسطين الآن أمام امتحان قاسٍ، يتطلب تأكيد وحدة المواقف لتحقيق صوت وحيد وقوي، ودون ذلك سيزداد الانقسام الفلسطيني، ولن يتحقق الحلم الفلسطيني، الذي يجمع العالم كله لمناصرته.

لا جدال في أن حرب اسرائيل و"حماس" و"حزب الله"، التي امتدت من نهاية 2023 الى نهاية 2024، حققت لإسرائيل الكثير من الايجابيات السياسية والعسكرية، فقد تطاولت على إيران، واغتالت رئيس "حماس" اسماعيل هنية، الذي كان في ضيافتها، وتجاهلت تواجد روسيا على الاراضي السورية، ولوثت سمعتها كحليف لنظام الاسد، وحولت "حزب الله" الى هيكل سياسي، بعد ان دمرت كل آلياته العسكرية، وأبقت عليه ضعيفاً واهناً بصوت منخفض، هذه الحقائق تولدت من تلك المغامرة، التي نفذتها مجموعة حماس، ورافقتها تحولات أمنية وعسكرية وسياسية أصبحت من مستجدات المنطقة.

يقرأون الآن