هناك محاولة لإلغاء وجود «غزة» ومحوها من الجغرافيا ومن التاريخ، عملية «نفى الوجود» وفق مصطلح الفيلسوف الألمانى العظيم «فريدريش هيجل»؛ الحرب التى شنتها إسرائيل على غزة اعتبارًا من صباح الثامن من أكتوبر 2023، وطوال 16 شهرًا، كان هدفها تدمير غزة بالكامل ودفع أهلها إلى الهرب- طوعيًّا- نحو سيناء، وتم وضع الدولة المصرية تحت ضغط فتح الحدود أمام الفلسطينيين بدلًا من إبادتهم، وحركوا ببغاواتهم فى مصر بشعار «افتحوا الحدود أمام إخوتنا»، وكأن العملية لعبة حزبية يزايدون بها على الدولة ويكسبون بعض نقاط فى دنيا الغوغائية السياسية.
رفضت مصر هذا التصور بحصافة وثبات من يدرك أبعاد المخطط، فردت إسرائيل بأنها تتفهم اعتراضات الرئيس السيسى بخصوص سيناء واقترحوا أن يدخلوا إلى مدينة العاشر من رمضان أو مدينة العبور، بدعوى أن فى المدينتين شققًا لم تسكن بعد، دعك الآن من سماجة الطرح والوقاحة بالتحدث وكأنهم أصحاب الأمر والنهى فى الشأن المصرى، لكن الغباء المصطنع وتصور أن مشكلتنا تتعلق بالشريط الحدودى فى سيناء. إنها مشكلة شعب يراد طرده من وطنه وأرضه.
طوال الحرب كانوا يعملون على إبادة الشعب الفلسطينى، ليس صحيحًا أنهم كانوا يستهدفون حماس، حتى «يحيى السنوار»، رئيس حماس داخل غزة، قتلوه مصادفة، أصابهم الذهول حين اكتشفوا أنه هو، بمجرد إعلان الهدنة خرج أعضاء حماس من الخنادق معافين، يرتدون ملابس زاهية، يتبخترون ببنادقهم اللامعة وعصائب الرؤوس وأقنعة الوجوه، ما ذاقوا الجوع ولا عاشوا فى العراء، ما تهدم بيت على رأس أى منهم. كأنهم فى حفلة تنكرية، الشعب فقط، المواطن البسيط هو من ضحى وتحمل وصابر، هذا المواطن كان المستهدف الرئيس من جيش الدفاع الاسرائيلى.
طبقًا لكتاب «بوب وود ورد» الأخير، كان الرئيس جو بايدن على علم تام بكل ما تقوم به إسرائيل وأقصى ما كان يقوم به أن يتصل تليفونيًا برئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ويضع المكالمة على مكبر الصوت كى يستمع بعض المعاونين ويطلب من نتنياهو عدم التوسع فى قتل المدنيين، فيرد نتنياهو بأنه فعلًا يتجنب- قدر الإمكان- قتل المدنيين، بعد المكالمة يلعن بايدن نتنياهو ويصفه بالكاذب، ثم يؤكد أنه رغم ذلك لا يمكن له أن يتراجع عن دعم ومساندة إسرائيل.
ثم جاء الرئيس ترامب، نجح الرجل فى فرض الهدنة، هى نفسها التى قدمتها مصر وقطر فى شهر مايو الماضى، وبدا أن الرجل لا يريد الحرب ويسعى إلى السلام، لكن تصوره للسلام يقوم على أمرين:
- الأول إزاحة الشعب الفلسطينى من غزة، فلا يكون هناك مبرر للقتل لدى الجيش الإسرائيلى، يتصور بذلك أنه قدم خدمة للفلسطينيين بمنع الاستهداف وأرضى الإسرائيليين.
- الثانى شطب غزة من الجغرافيا واستبدالها بما أسماه «ريفييرا الشرق الأوسط»، تسمية جذابة ومغرية، مكان يجتذب السياح من أنحاء العالم طوال العام والإدارة أمريكية بالطبع.
الأمران مرتبطان لديه، تهجير الفلسطينيين بدعوى إعادة التعمير، الذى قد يستغرق أكثر من خمسة عشر عامًا، خلال هذه السنوات يكون هؤلاء المهاجرون استقروا فى أماكنهم، حصلوا على جنسية جديدة، عمليًّا يذوبون فى البلدان التى استقروا بها. الرئيس ترامب لا معنى لديه لكلمة الوطن، المشكلة لديه أن غزة مدمرة ومكان للصراع، يأخذه هو- تفضلًا وكرمًا !- ثم يوفر للفلسطينيين «قطعة أرض جديدة وجميلة»، هكذا بكل بساطة واستخفاف.
ولما عبر المصريون- جمهورًا وأحزابًا ونقابات ومسؤولين- عن رفض كاسح لتهجير الأشقاء وكذا قال الأردن والعالم العربى كله تقريبًا، عاد ترامب ليقول إنه ليس مصرًّا على مصر والأردن، طرح أسماء بلدان أخرى، بينها بلد عربى، لاحظ أنه لم يطرح إمكانية استضافة بعضهم داخل الولايات المتحدة.
نعم تمتلك غزة ساحلًا بديعًا وممتدًّا على البحر المتوسط، كان الزعيم الراحل ياسر عرفات يحلم بأن يجعل منها نافذة فلسطين على عالم المتوسط والعالم، قبل أن تسعى حماس لتدمير حلمه ومشروعه الذى كان بدأ يتحقق، وقدمت الذرائع لإسرائيل كى تدمر ذلك المشروع فعلًا ثم تعلن سريعًا وصراحة، بعد السابع من أكتوبر، رغبتها فى تصفية الشعب الفلسطينى والقضية برمتها.
تهجير سكان غزة حلم قديم لدى الحكومات الإسرائيلية، يحدثنا يحيى السنوار فى روايته «الشوك والقرنفل»، عن أن إسرائيل منذ سنة 1967 كانت تقوم بتهجير أى مواطن لا ترضى عنه إلى سيناء فى المناطق الحدودية وتمنحه إقامة دائمة بها.
الفكرة قديمة، وكانت تتردد بخجل وعلى استحياء، لكن عملية حماس يوم السابع من أكتوبر، منحت نتنياهو فرصة أن يطرح المسكوت عنه أو المؤجل بصوت مرتفع، فى العلن، لاحظ أن إدارة بايدن لم ترفض اقتراح نتنياهو بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء وإلى الأردن، فقط قال له وزير الخارجية الأمريكى بلينكن...«سوف أطرح الأمر على الآخرين»، فى القاهرة كما فى عمان والرياض والإمارات العربية وقطر قوبل الاقتراح بالرفض الصارم، ثم جاء دونالد ترامب ليعيد الاقتراح لكن بعقليته وثقافته هو فى الحياة.
ذهب محلل إسرائيلى نقلًا عن مسؤول أمريكى سابق فى شؤون الأمن القومى أن الرئيس ترامب قد لا يكون جادًّا فى طرحه بخصوص غزة، ولكنه يريد أن يسحب الإعلام الأمريكى بعيدًا عما يقوم به داخل الولايات المتحدة من تغول على المؤسسات الدستورية، وقد يكون ذلك صحيحًا، لكن الصحيح أيضًا أن الهزر أو الخفة فى القول لا يكون فى السياسة وقضايا الأوطان، ما يقال حتى من باب المزاح لا يمر هباء، بل يترك أثرًا كبيرًا فى الواقع وعلى الأرض، وفى الذاكرة عشرات، بل مئات النماذج، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
حين أصدر وزير الخارجية البريطانية «آرثر بلفور» تصريحه الشهير فى نوفمبر سنة 1917، المسمى «وعد بلفور»، عبّر العرب عن غضبهم فى مظاهرات واحتجاجات شملت القدس والقاهرة والإسكندرية ودمشق وحلب وبغداد وبيروت، لم يكن غضبًا شعبيًا فقط، بل كان رسميًا أيضًا، فتحدث عدد من المسؤولين البريطانيين قائلين إنه مجرد تصريح، بالعربى «فنجرة بق»، ثم مضت الأيام وتبين أنه لم يكن يهذى ولا يلقى الكلام على عواهنه، كان يعبر عن خطة تم رسمها ومشروع بدأ تنفيذه على الأرض.
غزة أرضًا وشعبًا، لا يمكن أن تغادر الجغرافيا ولا التاريخ، فى التاريخ العربى كانت غزة مستقر أبوسفيان بن حرب فى رحلاته التجارية بالشام، قبل الإسلام وبها كان لقاؤه بالحاكم الرومانى الذى أراد أن يستفسر ويسمع منه عن النبى الجديد فى مكة، كان ذلك فى بداية البعثة النبوية وكان أبوسفيان وقتها رافضًا الدعوة الجديدة، وعن ذلك اللقاء قال- يشرح للمحيطين به سر حديثه الجيد عن شخصية النبى وسيرته فى قومه: «أنا سيد قومى ولا يمكن أن أكذب».
وفى غزة ولد ونشأ الإمام الشافعى- رضى الله عنه- الذى استقر فى نهاية الأمر بمصر، وله مريدون ومحبون كثر إلى يومنا هذا، فى القاهرة منطقة كاملة باسمه. فى مصر وضع الشافعى الصياغة النهائية لمذهبه الفقهى.
ومن غزة انطلق زمن الحملة الفرنسية خلية الغزيين الذين جاءوا إلى الجامع الأزهر وكانوا من تلاميذ الشيخ عبدالله الشرقاوى، بهدف قتل قائد الحملة الجنرال كليبر، لأسباب عديدة من بينها وحشيته فى قمع احتجاجات المصريين ودك حى بولاق على رؤوس سكانه.
كان طلاب غزة عادة يقطنون فى رواق الشراقوة بالجامع العريق، كانت الخلية بزعامة سليمان الحلبى، أى كان فى الأصل من حلب.
هذه الصلات التاريخية والإنسانية العميقة سببها البعد الجغرافى، لنقل ضرورات الجغرافيا، غزة كانت دائمًا بوابة مصر نحو فلسطين ومنطقة الشام كلها، فى فترات تاريخية كانت غزة والعريش تحت إدارة واحدة، منها جاءنا الأشقاء وذهبنا إليهم، حين احتل نابليون بونابرت القاهرة فر المماليك إلى الصعيد، فريق آخر وجد الاتجاه نحو فلسطين أسهل، وهكذا عبر السيد عمر مكرم إلى فلسطين واستقر فترة فى يافا.
ومن غزة كذلك جاءنا الغزاة والمحتلون، سليم الأول نموذجًا؛ لذا كان تأمين الحدود دائمًا واجبًا وطنيًا وقوميًا.
المصري اليوم