أسئلة جادة في زمن مضطرب

لحظات الاضطراب والفوضى والتغييرات الكبرى، هي لحظاتٌ توضح قيمة العلم والفلسفة والتفكير العميق، لأنها تُظهر أن المفاهيم الفلسفية قادرةٌ على تفكيك المتشابك في المجتمعات وتسهيل المعقد في السياسة، بحثاً عن الفهم أولاً ومن ثم التوصيف وأخيراً التعامل، ومنطقة الشرق الأوسط تعيش واحدةً من هذه اللحظات التاريخية.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب رجل أعمالٍ ناجحٍ، يتقن فن المفاوضات والوصول إلى صفقاتٍ ناجحة، وخبرته تدعوه ليصنع نفس الشيء في السياسة، ولكن السياسة لها مكونات بالغة الخطورة وهي قابلة للتفجر بين الدول سياسياً وبين الشعوب اجتماعياً، وهي حين تُفعّل تفشل كل الصفقات التجارية، وتهجير سكان قطاع غزة وتحويلها لشاطئ «ريفييرا» جديد هي واحدةٌ من هذه القنابل، وهنا يجب على الرئيس الأميركي أن يدرك أن الدول العربية والمسلمة لا يمكن أن تقبل بهذه الصفقة، ففضلاً عن مخالفتها للقوانين الدولية التي استقرت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية فإنها تحرك عناصر الهوية من دينٍ ولغةٍ وعرقٍ وتبرز مفاهيم الحق والعدل وكذلك الخير والشر، وهنا يمكن للشعوب أن تثور وللدول أن تغير تحالفاتها السياسية. تفكير يعاكس منطق التاريخ ذلك الذي يظن أنه في أربعة أشهرٍ قادرٌ على حل «القضية الفلسطينية» وهي معضلة لها سبعة عقودٍ من الزمن، والسؤال هو هل يمكن لأميركا أن تصنع ذلك بالقوة المسلحة؟ والجواب هو نعم، ولكن ما هي التبعات؟

وأهم التبعات هي أن مكانة أميركا وتحالفاتها في المنطقة والعالم ستصاب باهتزازاتٍ وتغيرات ستساهم في إضعاف أميركا وتسمح بصعود تحالفاتٍ جديدةٍ قد تنسف النظام الدولي الحالي من أساسه. القمة العالمية للحكومات التي تعقد كل عامٍ في دبي هي تجمعٌ مذهلٌ للسياسيين من رؤساء دولٍ وحكوماتٍ ووزراء وخبراء، وقبل أيامٍ تحدث رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون وهو حليفٌ لترامب وسخر من مقترح التهجير.

نموذجٌ آخر، وهو الموقف من الإرهاب، فالموقف من الإرهاب واضحٌ لدى غالب الدول في العالم، وكان العراق وسوريا مسرحاً لجماعات وتنظيمات الإرهاب مثل «داعش» و«القاعدة» لسنواتٍ ليست بالقصيرة، وهذه حقائق معروفة ومسلمٌ بها، والسؤال الذي يجب أن يطرح بعد سقوط نظام الأسد هو أين ذهبت هذه التنظيمات؟

وأين ذهب رموزها وقيادتها؟ وهل المواقف السياسية فقط قادرةٌ على الإجابة على هذه الأسئلة وتفاصيلها المعقدة؟ السياسة تتعامل مع الواقع، وتسعى لإيجاد الحلول العملية والسريعة، ولكن طرح الأسئلة الفلسفية العميقة يعين على فهم الأحداث بناء على فهم الأفكار والمبادئ التي خلفها، ويساعد على التبصر في المستقبل بناء على العلم والخبرة في الماضي، ولئن كانت سخونة الأحداث تمنع من طرح الأسئلة السياسية الحادة فإنها لا تمنع من البحث الفلسفي عن الإجابات الأقرب للصحة والصواب.

الاختلافات التاريخية جزءٌ من تكوين منطقتنا، دينياً ومذهبياً وعرقياً، ففيها المسلمون والمسيحيون واليهود، والأزيديون والصابئة المندائيون، والسنة والشيعة، والعلويون والدروز، والعرب والكرد، ولهذا فسؤال الطائفية سؤال ضخمٌ يحتاج إلى إجاباتٍ مقنعةٍ فلسفياً لا سياسياً فحسب، والعهد قريبٌ بما صنعه تنظيم «داعش» الإرهابي بالأزيديات وما فعله تنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي براهبات معلولا. مثل هذه الأسئلة وعشراتٌ تتفرع عنها لا يستطيع التاجر ولا الاقتصادي الإجابة عنها وإن فعل أتى بالعجائب مثل مقترح الرئيس الأميركي ترامب تجاه غزة، ولا تكفي فيها الإجابات السياسية العامة التي لا تدخل في التفاصيل الشائكة، والعلم والفلسفة والوعي قادرةٌ على الإجابات التفصيلية. أخيراً، فالأسئلة الجادة في الأزمنة المضطربة تفتح آفاقاً للفهم والتصور والتعامل الأفضل.

الاتحاد

يقرأون الآن