تقارب أميركي روسي.. نظام دولي متغيّر

النظام الدولي يتغيّر. تخرج الكتابات خطوةً خطوةً من دائرة التوقّع النظري إلى حيّز التأكيد العملي. فالتقارب الآخذ في التبلور بين قوّتين كبريين، الولايات المتحدة وروسيا، مع استعدادهما لإنهاء الحرب في أوكرانيا، هو ما يسرّع الانتقال من الاحتمال إلى شبه اليقين، خصوصاً إذا أمكن صنع السلام من دون العودة إلى المعادلة السابقة التي جرى تظهيرها بعد الحرب العالمية الثانية بنشوء المعسكرين الغربي والشرقي، المستندَين إلى حلفين عسكريين، «الناتو» و«وارسو»، وقد سقط الأخير بانهيار الاتحاد السوفييتي السابق. ليس واضحاً بعد ما إذا كان هذا التقارب سيفضي إلى حلف جديد أو وفاق أو إلى مجرّد تفاهم على علاقة مصالح خارج توازن الرعب المسلّح الذي سبق للعالم أن جرّب صِيَغاً له لفترات قصيرة ومتقطّعة.

لكن المؤكّد، إذا استمر النهج الأميركي الروسي الحالي وتوصّل إلى أهداف محدّدة ومباشِرة، أن مسار تغيير النظام الدولي يندفع إلى نقلة نوعية، وستتبعها خطوات أخرى. فالمحادثات الأولية بين الدولتين لم تقتصر على أوكرانيا، بل تطرّقت، في ما هو معلن، إلى الأمن الأوروبي واحتمال توسّط روسيا في أزمة البرنامج النووي الإيراني.

ومن بين الأهداف الروسية لحرب أوكرانيا كان الأهمّ عملياً تعديل منظومة الأمن الممثلة بحلف شمال الأطلسي ووضع حدّ لتوسّعها في شرقي أوروبا. لقد تأسست هذه المنظومة على قاعدتين: دفاعية في مواجهة الخطر الروسي (السوفييتي آنذاك)، وعقائدية أيديولوجية اختُزلت في الخيار بين «العالم الحرّ» والأنظمة الشمولية.

ومنذ جسّد سقوط «جدار برلين» (1989) انتصاراً للمعسكر الرأسمالي الغربي، وبالتالي هزيمةً للمعسكر الاشتراكي، طُرح السؤال حول مصير «الناتو» ومستقبله، لكن سرعة إعادة توحيد ألمانيا، وخروج العديد من الدول الشرقية من تحت المظلة السوفييتية، دفعا الولايات المتحدة والدول الغربية إلى حسم الإجابة: طالما أن «الخطر» قائم، فإن «الناتو» باقٍ لضم الدول المتحررة حديثاً و«حمايتها»، لكنه بات يشكل بدوره «خطراً» على الاتحاد الروسي. جرت محاولات دورية لضبط هذا الخطر بتفاهم أميركي أطلسي روسي، لكنها أخفقت، ثم كان ترشيح أوكرانيا لعضوية «الناتو» بمثابة تجاوز لما اعتبرته روسيا خطاً أحمر استراتيجياً.

منذ ولايته الأولى أظهر الرئيس دونالد ترامب رغبةً في حلّ الإشكال الأوكراني والانتقال إلى علاقات تقارب مع روسيا. كان الخلاف وقتئذ على الضم الروسي لشبه جزيرة القرم، أما اليوم فباتت روسيا تقتطع 20% من الأراضي الأوكرانية، وبلغت الحرب طريقاً مسدوداً، مما عزّز حجة ترامب لإنهائها بالتوقّف عن تمويلها لمجرّد إدامتها، ما يشكّل خروجاً واضحاً من «استراتيجية إضعاف روسيا» التي رسمتها إدارة جو بايدن وتبنّاها «الناتو».

ومع الإسراع في تطبيع العلاقات بين واشنطن وموسكو، وفرض اتفاق الاستثمار الأميركي للمعادن على أوكرانيا، والضغوط الشديدة على رئيسها، توصّلت إدارة ترامب إلى بداية «تحييدٍ للناتو»، وللمرّة الأولى منذ ثمانين عاماً تجد أوروبا نفسَها مضطرّةً، رغم انقساماتها، للاعتماد على قدراتها الذاتية في ضمان أمنها، إذ إن المظلة الأميركية إلى زوال.

لا يزال التغيير في بداياته، لكنه مرشّحٌ لأن يتسارع مع إنهاء حرب أوكرانيا وفقاً لنتائجها الميدانية، أي بمعزل عن محددات السيادة والشرعية كما كرّستها القوانين الدولية. وفي ضوء ذلك ستشهد القاعدة الأيديولوجية لمنظومة الليبرالية الغربية مزيداً من التحدّيات: فمن جهة، على المستوى العالمي، قد يتكرّس التراجع في القيم المعروفة كما صيغت في ميثاق الأمم المتحدة. ومن جهة أخرى سيواصل اليمين المتطرّف الأوروبي صعودَه بعدما أصبح يمثّل نقطة التقاء الترامبية مع البوتينية.

الاتحاد

يقرأون الآن