يجب التعامل مع بعثة تقصّي الحقائق الأخيرة التي أوفدها صندوق النقد الدولي إلى لبنان من 10 آذار 2025 إلى 13 منه بواقعيّة حذرة، بدلاً من التفاؤل السابق لأوانه. وفي حين أنّ زيارة الصندوق تؤكّد الحوار الجاري وتشير إلى الاستعداد لمساعدة لبنان، فمن الأهمّية بمكان أن نفهم أنّ هذه المهمّة تمثّل بدايةً لرحلة طويلة وشاقّة نحو وضع برنامج يدعمه الصندوق.
إنّ اعتراف صندوق النقد الدولي بالصعوبات الاقتصادية الحادّة التي يواجهها لبنان، بما في ذلك الفقر الراسخ والبطالة المتزايدة والقطاع المصرفي المشلول والطلب المتزايد على المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار، يسلّط الضوء على حجم التحدّيات التي تواجهها البلاد. وعلى الرغم من أنّ صندوق النقد الدولي أشاد بالجهود المتواضعة التي بُذلت أخيراً، شدّد على أنّ هذه التدابير لا ترقى إلى مستوى استراتيجية الإصلاح الشاملة اللازمة لمعالجة نقاط الضعف الهيكلية في لبنان بفعالية وفق ما ورد في أساس ميديا.
هناك العديد من القضايا الحرجة التي تضاعف نقاط الضعف في لبنان. يمثّل التعيين الوشيك لحاكم جديد لمصرف لبنان، إلى جانب انتهاء فترة ولاية نواب الحاكم في أيار 2025، منعطفاً حاسماً للاستقرار النقدي وإعادة التأهيل الاقتصادي للبلاد. علاوة على ذلك، تعكس الموازنة العامّة لعام 2025 الضعيفة بشكل ملحوظ، التي تمّت الموافقة عليها على عجل قبل ساعات فقط من وصول فريق صندوق النقد الدولي، نقصاً مقلقاً في الالتزام بإدارة ماليّة صارمة.
يؤدّي إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي في تشرين الأوّل 2024 إلى زيادة تعقيد الوضع في البلاد، وهو ما يشير إلى أوجه قصور في أطر مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. هذه اللائحة الرمادية، إلى جانب التصنيف الائتماني “متعثّر محدود” (Restricted Default) الناجم عن عدم سداد استحقاق اليوروبوندز والتوقّف عن خدمة الدين العامّ في آذار 2020، تقوّض بشدّة مصداقية لبنان، وترفع تكلفة التمويل الدولي، وتردع الاستثمار الأجنبي بشكل كبير.
علاوة على ذلك، سيكون البرنامج الذي يدعمه صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى الدعم المالي، بمنزلة ممرّ إلزامي للبنان للحصول على مساعدات دولية أوسع نطاقاً ضرورية لإعادة الإعمار. ومن المرجّح أن يشترط المجتمع الدولي، الذي يخشى الفساد وسوء الإدارة، من أجل تقديم مساعدات إعادة الإعمار الكبيرة نجاح لبنان في تبنّي وتنفيذ برنامج إصلاح معتمد من صندوق النقد الدولي.
إنّ انعدام الثقة المستمرّ بين صندوق النقد الدولي والسياسيين اللبنانيين، المتجذّر في الإخفاقات المتكرّرة في تنفيذ الإصلاحات الضرورية، يمكن أن يؤخّر إلى حدّ كبير أو حتّى يعرقل برنامج صندوق النقد الدولي القابل للتطبيق. وفي نهاية المطاف، يعتمد توفير دعم صندوق النقد الدولي، واستطراداً إطلاق العنان للمساعدات الدولية الأوسع نطاقاً، بشكل كبير على الاستعداد الحقيقي للقادة السياسيين اللبنانيين لتبنّي الإصلاحات البنيوية، وضمان الشفافية، وإعادة بناء الثقة من خلال الحوكمة الخاضعة للمساءلة.
يجب التشديد على أنّ هناك بالفعل صلة قويّة بين احتياجات إعادة إعمار لبنان، بما في ذلك إعادة إعمار المناطق التي دمّرها الصراع مع إسرائيل، وبرنامج صندوق النقد الدولي. وفي حين أنّ برنامج الصندوق نفسه لا يموّل إعادة الإعمار بشكل مباشر، إلّا أنّه بمنزلة ممرّ إلزامي للمساعدة الدولية الأوسع نطاقاً، واستعادة الثقة، وإطلاق العنان لتمويل خارجي إضافي.
لنتوسّع قليلاً في كيفية عمل هذا الارتباط بوضوح:
1- المصداقية والثقة. يشير برنامج يدعمه صندوق النقد الدولي إلى المانحين والدائنين والمستثمرين الدوليين بأنّ لبنان ملتزم بالإصلاحات الصارمة والمساءلة والمسؤولية الماليّة. وفي غياب هذا التأييد، تضعف الثقة الدولية، ثمّ التدفّقات المالية إلى حدّ كبير.
2- الشروط والإصلاحات. عادة ما تتضمّن برامج الصندوق شروطاً صارمة تهدف إلى الإصلاحات الهيكلية، وتحسين الشفافية، وتدابير مكافحة الفساد. وتؤكّد هذه الظروف للجهات الفاعلة الدولية أنّ الأموال ستستخدم بفعّالية، وهو ما يقلّل إلى أدنى حدّ من مخاطر إساءة الاستخدام أو سوء التخصيص، ويحفّز مشاركتها في إعادة الإعمار والمعونة الإنسانية.
3- تأثير اللائحة الرمادية لمجموعة العمل الماليّ. يؤدّي الإدراج الرمادي الأخير لمجموعة العمل المالي إلى تفاقم التردّد الدولي في توجيه الأموال إلى لبنان دون ضمانات بإدخال تحسينات تنظيمية قويّة. يمكن أن يكون البرنامج المدعوم من صندوق النقد الدولي بمنزلة إطار موثوق به يُظهر استعداد لبنان لمعالجة أوجه القصور في تدابير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
4- مخاطر وتكلفة رأس المال. نظراً إلى تصنيف لبنان للمخاطر بعد قرار التوقّف عن خدمة الدين العامّ في عام 2020، فإنّ تكلفة الاقتراض دوليّاً مرتفعة للغاية. ومن شأن اتّفاق صندوق النقد الدولي أن يخفّف جزئيّاً من هذه المخاطر من خلال توفير المصداقية، ومساعدة لبنان على اجتذاب تمويل بأسعار معقولة من الأسواق الخارجية أو مؤسّسات التنمية، وهو أمر بالغ الأهمّية لإعادة الإعمار.
صحيح أنّ البرنامج الذي يدعمه الصندوق ليس المسار الوحيد الممكن من الناحية الفنّية، إلّا أنّه يبدو إلزاميّاً عمليّاً باعتباره “ممرّاً” لجذب حجم وجودة الأموال الدولية اللازمة لجهود إعادة الإعمار الفعّالة والمستدامة في أعقاب النزاع الأخير بحسب أساس ميديا.