للمرة الأولى منذ عامين، تمكّن الجيش السوداني من استعادة السيطرة على القصر الجمهوري في وسط العاصمة الخرطوم، وسط تحولات ميدانية كبرى تشهدها البلاد، وباتت ترجّح كفة القوات المسلحة على أكثر من محور، في مقابل تراجع لانتشار قوات الدعم السريع، في وقت تدور أسئلة عن تفاصيل ما جرى ومصير ما تبقى من العاصمة.
وبعد ثلاثة أيام من القتال العنيف في وسط الخرطوم، أعلن الجيش السوداني دخول عناصره إلى القصر الجمهوري للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من نيسان/ أبريل 2023. وقال بيان للجيش السوداني إنه "سحق مليشيا آل دقلو الإرهابية في وسط الخرطوم والسوق العربي ومباني القصر الجمهوري والوزارات". وأفادت مصادر ميدانية لـ"النهار" بأن "وحدات من القوات النظامية تستكمل عملية التمشيط باتجاه الوسط التجاري المتاخم للقصر، أو ما يعرف بالسوق العربي"، فيما باتت المباني المجاورة، وعلى رأسها مقارّ وزارات الخارجية والمعادن والمالية وكذلك برج أفريقيا، تحت سيطرة الجيش، وهي مواقع عالية استفادت منها سابقاً عناصر الدعم السريع لنشر قناصة عرقلت ولمدة طويلة أي عملية عسكرية في تلك المنطقة.
وكان لافتاً في الأيام الماضية احتدام المواجهات على أكثر من محور ضمن مدن العاصمة الثلاث الخرطوم وبحري وأم درمان، بالتزامن مع خطاب لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، يعلن فيه رفض الخروج من القصر والعاصمة، وتصميمه على مواصلة القتال.
يقع القصر الجمهوري وسط الخرطوم، ويطلّ على النيل الأزرق قبل التقائه بالنيل الأبيض في منطقة المقرن. ويضمّ مبنيين؛ الأول هو القصر القديم، ويعود لسنة 1830، وشهد على استقلال السودان سنة 1956، وصولاً إلى انقلاب الرائد هاشم العطا واحتجاز الرئيس جعفر النميري فيه عام 1972. وفي نهاية التسعينيات، تمّ فتح جزء من المبنى التاريخي للزوار لتتحول الواجهة الشرقية إلى متحف، فيما تم افتتاح قصر جديد مجاور له في 2015 حيث أصبح مقر إقامة الرئيس السابق عمر البشير، وبعده عبد الفتاح البرهان قائد الجيش الذي وصلت قوات الدعم السريع صباح اليوم الأول للحرب حتى غرفته الشخصية قبل أن يتمكن من التوجه إلى مقر القيادة العامة القريب بدوره من سلسلة أبراج ومصارف ومقار حكومية على شارع النيل، شهدت اشتباكات عنيفة دمرت أغلب معالم العاصمة.
الجسور وحرب المدن... كلمة السر نحو العاصمة
يشرح الخبير الميداني محمد عادل تفاصيل ما حدث خلال الفترة الماضية، وأدى إلى توسع كبير للجيش وسط الخرطوم، فاعتبر ما جرى مرتبطاً بنقطتين: الأولى، فهم القوات المسلّحة وخبرتها لحرب المدن، والثانية الإصرار على التحكم بالجسور الواصلة ما بين المدن الثلاث.
ويضيف عادل: "من يسيطر على جسور الخرطوم يمتلك مفاتيحها. هذه المعادلة يعرفها الجيش والبرهان جيداً. ومع تمكن الوحدات المقاتلة من اجتياز جسر الإنقاذ، وجسر النيل الأبيض نحو المقرن، كانت البداية باتجاه ربط أولي من جنوب أم درمان نحو منطقة تتحصن فيها الدعم السريع، وينتشر فيها قناصة يتبعون لها بداية من برج الاتصالات ووزارة الخارجية وبناء العمارة الكويتية. ولكن الجيش تمكن تدريجياً من تحييد هؤلاء، كما لعب كبري الحلفايا شمالاً دوراً في تأمين كامل منطقة بحري وصولاً لفك حصار القيادة العامة وتمشيط منطقة شرق النيل الأزرق، فباتت أغلبية الجسور بقبضة الجيش".
بدوره، يرى المحلل الميداني الفاضل عبد الله أن خصوصية وسط الخرطوم تبدو بغاية التعقيد، وقد يكون هذا ما دفع بوحدات خاصة من الجيش وهيئة العمليات إلى التحرك "بشكل بطيء لكنه ناجح". وأضاف أنّ "عنصر القوة الأساسي في جنوب الخرطوم كان سلاح المدرعات، الذي كاد يسقط بيد الدعم السريع قبل أن يعزز الجيش من قوته هناك. ومع فك حصار القيادة العامة، تحرك المقاتلون منه شمالاً بشكل بطيء، لكنه مرهق للدعم السريع بالمناوشات، خاصة أن الشوارع متداخلة والأبنية قريبة من بعضها. لكن تحييد مواقع كمستشفى الشعب وبرج أفريقيا ومستشفى الزيتونة كان له بالغ الأثر في تعزيز قبضة الجيش".
العين على مطار الخرطوم والأحياء الشرقية
مع استعادة الجيش لمساحات واسعة وسط الخرطوم، باتت الأنظار تتجه إلى مطار العاصمة الملاصق للقيادة العامة، وسط حديث مصادر متابعة عن أهمية المطار باعتباره يشغل حيزاً واسعاً، ويجاور المواقع الحكومية التي استردها الجيش من جهة، ولرمزيته كأحد أول المواقع التي سقطت بيد الدعم السريع في بداية الحرب. يضاف إلى ذلك تموضعه وإطلالته على أحياء كانت تعدّ مقارّ للبعثات الديبلوماسية كحي العمارات، أو في مناطق مثل أحياء الطائف والرياض والجريف وأركويت وصولاً إلى شارع الستين، وجميعها مناطق سكنية لا تزال عناصر الدعم السريع تتمركز فيها. وتتحدث المصادر عن خيارات ضيقة للتعامل مع هذه الأحياء، إذ لم تعد هناك ممرات للهرب، لا سيما أن أغلبية الجسور باتت مع الجيش، فيما تبقى الطريق الوحيدة جنوباً باتجاه جسر جبل الأولياء، ومنه عبر النيل الأبيض إلى ولاية كردفان، وهو الأمر الذي يعطي إشارة مهمة إلى تحول ميداني كبير بعد عامين من بدء الصراع.