شاءت الظروف أن ألتقى الملك تشارلز، وهو ولى عهد ثلاث مرات كانت الأولى فى دار سكن السفير البريطانى بالقاهرة حيث دعا السفير على شرف الأمير عددًا من الشخصيات المصرية لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة كنت واحدًا منهم، وأتذكر أنه دخل إلى قاعة الطعام يومها مرتديًا الزى الوطنى الأسكتلندى، وكان السفير قد ألقى كلمة ترحيب به كولى لعهد بريطانيا ووريث العرش الذى كانت لا تغرب عنه الشمس، وقد أدهشنى أنه بعد كلمة السفير لم يرد عليه الأمير بكلمة مماثلة بل دعينا إلى مائدة الطعام دون تعليق منه، وقد فهمت بعد ذلك أن البروتوكول الملكى فى المناسبات الاجتماعية لا يلزم ولى العهد، فضلاَ عن الملكة بالرد على كلمات التحية والتعبير عن السعادة، لأن ذلك أمر مفترض من البداية، أما المناسبة الثانية فكانت يوم افتتاح الجامعة البريطانية فى مصر بحضور ولى عهد بريطانيا، والسيدة قرينته الملكة الحالية كاميلا بصحبة سيدة مصر الأولى حينذاك، وكان من الطبيعى أن أمضى معهم معظم وقت ذلك اليوم باعتبارى أول رئيس للجامعة، وكان الأمير وقتها فى أعلى درجات لياقته الفكرية والبدنية، وأتذكر أننى سألته يومها لماذا الاهتمام من جانبك بالحضارة الإسلامية والتعلق بالتاريخ الإسلامى عمومًا فأجانبى الأمير قائلاً إن ذلك يرجع لاهتمامى بالعمارة الإسلامية، وإعجابى الشديد بالقباب والمآذن حتى إنه قرأ الكثير مما يمكن تسميته فقه العمران الإسلامى، وهو الأمر الذى انتقل به على مزيد من الاهتمام بدراسة الديانة الإسلامية وتأمل شئون المسلمين فى العالم، وبرغم أنه رأس الكنيسة الإنجليكية إلا أن لديه من رحابة الفكر وسماحة النفس ما يؤهله لدراسة العقائد الأخرى والديانات الكبرى، أما المناسبة الثالثة فقد كانت نهاية 2021 عندما زار مكتبة الإسكندرية، وأنا مدير لها وسعدت كثيرًا أنه تذكرنى من لقائى الثانى معه فى الجامعة البريطانية وتحدث معى عن مؤسسته الخيرية الكبرى فى بريطانيا، وتفضل بتوجيه دعوة لى للحضور إليها، وإلقاء محاضرة فيها عندما تسمح الظروف، وقد كان ودودًا وكريمًا إلى أبعد حد، والتقى يومها بأعداد من الشباب المصرى فى ساحة المكتبة، وكان يقطر كالمعتاد أدبًا واحترامًا تعرفه العائلات المالكة والبيوت الملكية العريقة، وخرج من المكتبة إلى المطار مباشرة عائدًا هو وقرينته الملكة كاميلا إلى عاصمة ملكه فى لندن، ثم جاءتنى الأخبار بعد ذلك بأن المرض اللعين قد أصابه بعد أن جلس على العرش بفترة وجيزة حيث طال انتظاره فى ولاية العهد لما يزيد على سبعين عامًا، حيث لم تبادر أبدًا والدته الملكة إليزابيث الثانية بالتنازل عن العرش له رغم تقدمها فى العمر إلى أن رحلت عن عالمنا، وتأتينى الأنباء حاليًا بأنه قد بدأ يتعافى بعد رحلة علاج أسطورية مع مرض شرس يبدو أن الملك استطاع أن يقهره بإرادته القوية وعزيمته الصلبة وثقافته الواسعة، إننى أكتب اليوم عن ذلك الملك المستنير الذى يعشق المعرفة ويتعاطى الثقافة بسعة أفقه وعمق شخصيته، لكى يتأكد الجميع أن ذلك الملك سليل العرش البريطانى، وسيد بلاد سان جيمس هو واحد ممن ينصفون الإسلام الذى درس وتعرف على بعض تعاليمه على يد أستاذه الفقيه المصرى الدكتور زكى بدوى الذى كان عالمًا دينيًا وإمامًا روحيًا وشخصية مصرية مشرفة، لذلك جاءت أفكار الملك تشارلز متسقة مع تلك الروح ومواكبة لذلك النوع من الفكر المتفتح الذى بدأ يتضاءل فى حياتنا وينحسر فى عالمنا، رغم أن العالم يشهد فى السنوات الأخيرة موجات من التعصب مع انتشار خطاب الكراهية لا أن هناك لاتزال منابع للتسامح الدينى والتفكير العقلانى الذى يؤمن بأن ما لله لله ومالقيصر لقيصر، تحية لذلك الملك الذى أشترك معه فى يوم عيد الميلاد – رغم خلاف السنين فهو يصغرنى بسنوات قليلة – ويشترك معنا فى ذلك اليوم رئيس وزراء الهند السابق جواهر لال نهرو وعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، والملك الراحل الحسين بن طلال، وبطرس بطرس غالى الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، وأجد نفسى محشورًا فى زمرة هؤلاء الكبار فأتلمس المجد من أصحابه وأرنو نحو التميز الذى حازه هؤلاء العظام .. تحية للملك الذى أتمنى له الانتصار فى معركته مع المرض الشرس لينعم بسنوات هادئة على عرش الامبراطورية التى لم تكن تغرب عنها الشمس بعد طول انتظار.
الأهرام