أدى الخطاب المتلفز للرئيس الأميركي دونالد ترمب في يوم «التحرير» إلى حالة عالمية من «عدم اليقين»، بشأن «العولمة»، وانتشار التبادل التجاري بأوسع حالاته، حتى بين الدول غير الصديقة (الولايات المتحدة والصين).
لكن تشمل حالة «عدم اليقين» الآن، حتى الدول الأوروبية الحليفة تاريخياً مع الولايات المتحدة، التي تشعر بأنها حالياً في مأزق بين المطرقة الروسية والكماشة الأميركية، التي ستواجه صعوبة في اتخاذ قرار مستقبلي، بعد حرب أوكرانيا، بين احتمال عودة استيراد الغاز الروسي، أو الاضطرار لاستيراد الغاز المسال الأميركي. ورغم توفر إمدادات غازية بديلة لأوروبا، تبقى البدائل الأخرى محدودة نسبياً مقارنة بضخامة الإمدادات الأميركية أو الروسية المتوفرة حالياً مع بنيتها الجاهزة للتصدير.
ستجد أوروبا نفسها، رغم استيائها البالغ والعلني لسياسة ترمب الجمركية، وتهديداتها بالرد بالمثل على الرسوم الجمركية الأميركية، مضطرة لاتخاذ قرار صعب في المستقبل المنظور ما بين ضغوط واشنطن وموسكو، في شراء إمدادات ضخمة من الغاز من إحدى الدولتين الكبريين. طبعاً، ستحاول أقطار السوق المشتركة تنويع مصادر الاستيراد من: الجزائر، وقطر، والنرويج، ونيجيريا، وموزمبيق، ومصر... لكن من الصعب لوجيستياً على إحدى الدول تعويض الإمدادات الروسية أو التنافس مع الإمدادات الأميركية مباشرة، واستبدال ما يمكن أن تزوده شبكة خطوط أنابيب الصادرات الروسية وأسعارها التنافسية، بالذات إذا ستتغلب أوروبا على نفسها وتستورد الغاز الروسي ثانية عبر شبكة خطوط الأنابيب، رغم توقع صعوبة علاقاتها السياسية مع موسكو بعد حرب أوكرانيا، ودون الدعم التاريخي المعهود لواشنطن عبر حلف «الناتو». وهناك طبعاً الضغوط التي ستستعملها الشركات الأميركية وكذلك الحكومة الأميركية لمنع اعتماد أوروبا ثانية على الغاز الروسي، بدلاً من الغاز الأميركي أو غيره. كما ضغطت واشنطن منذ منتصف عقد الثمانينات أثناء مفاوضات الاتحاد السوفياتي سابقاً مع الأقطار الأوروبية.
وهذه المرة، عكس تجربة منتصف الثمانينات، تملك واشنطن ورقة قوية لم تكن متوفرة لديها سابقاً، وهي إمكانية تصدير كميات ضخمة من الغاز المسال، خصوصاً أن احتياطياتها الغازية من الغاز الصخري قد ارتفعت إلى معدلات قياسية منذ عام 2015، كما أنه قد أصبح لدى الولايات المتحدة الأساطيل اللازمة لشحن الغاز المسال عبر المحيطات، بالإضافة إلى البنى التحتية اللازمة من المواني المخصصة لتصدير الغاز المسال. وستكون أوروبا في وضع لا تُحسد عليه بين واشنطن وموسكو، سياسياً واقتصادياً.
وبالإضافة إلى الزيادات العالية للرسوم الجمركية، أضافت سياسة ترمب ضريبة جمركية جديدة بمعدل 10 في المائة على جميع المواد المصدرة للولايات المتحدة من نحو 50 - 60 دولة. وهناك الضرائب الجديدة الأخرى على صادرات الدول الأوروبية بمعدل 20 في المائة التي تراوحت ما بين 25 في المائة بالنسبة للحديد والصلب، والألمنيوم، والسيارات المصنوعة خارج أوروبا. شكل التدهور المستمر لأسواق الأسهم الأميركية خلال الأسبوع الماضي مؤشراً سلبياً مهماً لرد فعل الأسواق على سياسة الرئيس ترمب الاقتصادية هذه. وقد خسرت أسواق الأسهم في صباح اليوم التالي بعد خطاب الرئيس ترمب نحو 1.7 تريليون دولار، ونحو 6 في المائة من قيمتها بنهاية الأسبوع.
وقد أدت هذه الخسارة إلى حالة «عدم اليقين» التي تكتنف سياسة ترمب، خصوصاً الانعكاسات على الأسواق، وما سيحدثه ذلك من انحسار اقتصادي عالمي. وقد هدد بعض كبار رؤساء الدول بتبني سياسة الرد بالمثل على الزيادات الجمركية الأميركية، كما هي الحال في فرنسا وكندا والمكسيك. وهدّد وزير الخزانة الأميركي بالرد وزيادة الضرائب الجمركية ثانية على الدول التي تتبنى سياسة الند بالند لتزيد واشنطن ضرائبها مرة أخرى على الدول التي تتحدى الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة.
صناعياً، يكمن الخوف في قطاعين مهمين: صناعة الإلكترونيات، حيث تعتمد شركة ضخمة مثل «أبل» على استيراد كميات كبيرة من القطع التي تستوردها على سلسلة الاستيرادات من دول متعددة، أهمها الصين، كما ستتأثر سلباً أيضاً صناعة السيارات، التي تعتمد سلسلة استيرادها بدورها على قطع تستوردها السيارات الأميركية من كندا، والمكسيك، والصين. كما ستواجه الصادرات الزراعية، خصوصاً الأميركية منها إلى الصين تحديات كبرى، إذ تستورد الصين كميات ضخمة من الحبوب ولحوم الحيوانات من الولايات المتحدة سنوياً. وقد كانت الصين قد فرضت رسوماً جمركية عليها خلال عهد إدارة الرئيس ترمب الأولى بنحو 10 في المائة، رداً على رسوم جمركية أميركية مماثلة حين ذلك. من ثم فإن الزيادة الصينية الضريبية الجديدة بنحو 34 في المائة، ستجعل أسعار الصادرات الزراعية والحيوانية الأميركية في الصين باهظة الثمن، مما سيقلص من الطلب عليها، الأمر الذي سيؤثر سلباً على المزارعين الأميركيين، الذين ساندوا دونالد ترمب في الانتخابات الأخيرة.
واجهت سياسة ترمب الجمركية اعتراضات إضافية، نظراً لطرحها الغريب في هذا التوقيت لضم كندا وعدّها ولاية أميركية، الأمر الذي لاقى استهجاناً عالمياً، ليس فقط في كندا نفسها، أو عند حليفاتها الأوروبية، بل حتى في الولايات المتحدة نفسها. وهناك طبعاً الإصرار المتكرر لضم جزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك، الحليفة في «الناتو»، هذا ناهيك عن بنما، وغزة.
عدّ البعض سياسة ترمب الجمركية وسيلة لمحاربة الصين خاصة؛ لتقدمها العلمي والاقتصادي والصناعي، الذي أخذ يضاهي نظيره في الولايات المتحدة نفسها. وبالفعل تشير معلومات كثيرة متوفرة إلى أن إنتاج سلع الطاقات المستدامة، والسيارات والمركبات الكهربائية، والطاقة الشمسية، وطاقة الرياح في الصين، قد فاقت تلك التي في الولايات المتحدة. وفرضت الولايات المتحدة حالياً ضريبة بـ34 في المائة على الصادرات الصينية للولايات المتحدة، وردّت الصين من جانبها بفرض ضريبة مماثلة على مختلف الصادرات الأميركية لبلادها، الأمر الذي عدّه الرئيس ترمب «خطأً»، و«متسرعاً».
كما أن واشنطن قد فرضت ضرائب جمركية على الصين، أكثر من أي دولة أخرى، الأمر الذي سيخلق صعوبات أمام الصادرات الصينية، ومن ضمنها منتجات الشركات الأميركية والأوروبية الكبرى التي استثمرت خلال العقود الماضية في الصين، واتخذتها مقراً لمصانعها الجديدة. وقد رد الرئيس ترمب على شكوى هذه الشركات، بأن «نصح» الصناعيين بنقل أو فتح مصانع جديدة بدلاً منها في الولايات المتحدة، تفادياً لدفع الضريبة الجمركية الأميركية. وهذا الأمر لا يمكن معالجته بخطاب واحد، وسيأخذ سنوات عدة وتكاليف باهظة لتنفيذه.
وواجه الرئيس ترمب كذلك انتقادات حادة في نهاية الأسبوع الماضي من جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، المستقل عن الحكومة الأميركية، الذي صرّح في نهاية الأسبوع بأن «الرسوم الجمركية الزائدة عن التوقعات تعني ارتفاع التضخم، وتباطؤ الاقتصاد».
وقد أشار رئيس «الفيدرالي» في خطاب معد لمؤتمر صحافيي الأعمال، إلى مخاطر ارتفاع البطالة والتضخم، كما أشار إلى أنه «في حين أن الرسوم الجمركية من المرجح أن تحدث ارتفاعاً مؤقتاً على الأقل في التضخم، فمن الممكن أيضاً أن تكون آثارها أكثر استمراراً». وأضاف: «يعتمد تجنب هذه النتيجة على ثبات توقعات التضخم طويلة الأجل، وحجم هذه الآثار والمدة التي تستغرقها، لينعكس ذلك بالكامل على الأسعار. إن التزامنا هو ثبات توقعات التضخم طويلة الأجل، والتأكد من أن أي زيادة لمرة واحدة في مستوى الأسعار لن تصبح مشكلة تضخم مستمرة».
الشرق الأوسط