العلاقات الجزائرية الفرنسية.. ماذا لو عادت فرنسا معتذرة؟

ما يجمع فرنسا والجزائر ليس مجرد تاريخ مشترك، ولكنه بالنسبة للكثيرين، أنهار من الدماء وجبال من الجماجم والأشلاء وعقود طويلة من الاستغلال وجرائم لا تسقط بالتقادم.

عندما كان وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو يحزم حقائبه عشية زيارته الرسمية إلى الجزائر لاستئناف الحوار بين بلاده والجزائر لتخفيف التوترات الحادة التي كادت تصل إلى حد القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، كان زميله في الحكومة وزير الداخلية برونو روتايو يقول للإعلام الفرنسي إنه لا يثق في الجزائر ويجب التعامل معها بالصرامة واليقظة حتى يرى بعينه، حسب تعبيره، إجراءات ملموسة.

فما هو الملموس بالنسبة لهذا الوزير اليميني الذي يطمح لرئاسة حزب الجمهوريين ويهمه مستقبله السياسي وترشحه للرئاسة عام 2027 قبل أي تقارب دبلوماسي مع الجزائر؟

قبل أربع سنوات نشر المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا تقريرا عن الاستعمار الفرنسي في الجزائر أوصى فيه بسلسلة من الخطوات التي تساعد على ما اسماه آنذاك "تضميد الجراح التاريخية المفتوحة مع الجزائر"، وركّز فيه على العلم والثقافة وبعض النشاطات التي تستذكر أهم المحطات التاريخية بين البلدين لمداواة أوجاع الذاكرة.

بالنسبة لعموم الجزائريين جروح الذاكرة لم تندمل بعد، ولا يمكن القفز عليها بسهولة، حتى لو أراد النظام الجزائري ذلك، فما يجمع فرنسا والجزائر ليس مجرد تاريخ مشترك، ولكنه بالنسبة للكثيرين في الجزائر، "أنهار من الدماء وجبال من الجماجم والأشلاء وعقود طويلة من الاستغلال وجرائم لا تسقط بالتقادم".

الكثير من الجزائريين انتقدوا توصيات ستورا لأنها لا تتضمن اعتذارًا رسميًا من فرنسا عن الجرائم المرتكبة في الجزائر خلال فترة الاستعمار. ورغم الاتفاق بين البلدين خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر عام 2022 بتنصيب لجنة مشتركة للعمل على حل القضايا العالقة خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر، إلا أنّ مماطلة الجانب الفرنسي أدّت إلى تجميد عملها عقب ضغوط من اللوبي اليميني الفرنسي.

إلا أنّ اللجنة استأنفت عملها من جديد مع إعلان الرئيسين الجزائري والفرنسي عودة الدفء إلى العلاقات الثنائية من خلال مكالمة مطولة لمناسبة عيد الفطر اتفقا فيها على خريطة طريق لمعالجة أهم القضايا التي تسببت في الجفاء بين البلدين وتوجت هذه المكالمة بزيارة وزير الخارجية الفرنسي للجزائر.

ما يهمّ فرنسا والجزائر من التقارب "الحذر"

بعيدًا عن برتوكولات الزيارة والتقارب الحذر بين البلدين بحكم الملفات الحساسة التي لطالما كانت تُسيّر منذ عقود وفق توازنات دقيقة، فإنّ ما يهم الرئيس الفرنسي استرجاع فرنسا مكانتها الاقتصادية في الجزائر التي تراجعت وعُلّق عمل شركاتها بفعل التصعيد بين البلدين خلال الأشهر الأخيرة.

أما الرئيس الجزائري الذي وعد في حملاته الانتخابية بمحاربة الفساد والمفسدين من النظام السابق واسترجاع الأموال المنهوبة، فما يهمّه بالدرجة الأولى هو تعاون فرنسا وتسليمها للمطلوبين للعدالة الجزائرية والمتواجدين فوق أراضيها، وأبرزهم الوزير الأسبق عبد السلام بوشوارب المتهم في قضايا فساد.

أما وزراء اليمين، على رأسهم وزير الداخلية، فهاجسهم ملف الهجرة وترحيل أكبر عدد ممكن من المهاجرين غير النظاميين الجزائريين من الأراضي الفرنسية.

وقد لا يكون مُبالَغًا به القول إنّ ملف الهجرة يشكّل "كارت" (بطاقة) العلاقات الجزائرية الفرنسية، وهي التي تحمل رصيدا غير محدود بالنسبة للسياسيين الفرنسيين وتُستعمَل في المزايدات السياسية في كل المناسبات الانتخابية الفرنسية.

من هذا الباب، فإن الكثير من المتابعين سواء في الجزائر أو فرنسا غير متفائلين أو متحمسين لهذا التقارب ويعتقدون أنه سيكون مجرد عودة دبلوماسية روتينية، سيعود بمقتضاها السفير الجزائري إلى باريس (الجزائر سحبت سفيرها من باريس صيف 2024 بعد تبني ماكرون مقاربة المغرب في ما يخص إقليم الصحراء)، من دون أن يسري ذلك على القضايا الحساسة العالقة بين البلدين، والتي لا يمكن أن يتم تخطيها بهذه السهولة.

هل يمكن التفاؤل بعلاقات مستقرة بين فرنسا والجزائر؟

صحيح أن نوايا الرئيسين الفرنسي والجزائري المعلنة على مستوى فتح الحوار والحديث بصراحة حول القضايا التي أزمت الوضع بين الطرفين تُعتبَر خطوات في الاتجاه الصحيح لعودة العلاقات إلى مسارها الطبيعي، إلا أن النوايا وحدها لا تكفي، ومن المبكر الحديث عن علاقات سوية ومستقرة بين البلدين نظرًا لحساسية الملفات العالقة، خصوصًا ما يتعلق بملف الذاكرة والصحراء بالنسبة للجزائر، فضلاً عن قضية الهجرة والملف الاقتصادي بالنسبة للجانب الفرنسي.

ويضاف إلى كلّ ذلك عامل مؤثّر، يعتبَر المؤشر الذي يحدد طبيعة العلاقات، وهو هو الوضع السياسي في فرنسا مع التجاذبات الحاصلة في البرلمان الفرنسي وصعود التيار اليميني الرافض لأي تقارب مع الجزائر، وكذلك ضعف الموقف السياسي للرئيس الفرنسي ماكرون مع اقتراب نهاية ولايته الرئاسية الثانية والأخيرة، وهو ما يجعل ملف العلاقات مع الجزائر ورقة انتخابية لبعض رموز اليمين الفرنسي على غرار وزير الداخلية روتايو، الرئيس المحتمل لحزب الجمهوريين ومرشح الرئاسة الفرنسية عام 2027.

فرنسا التي تقدم نفسها كأرض حقوق الإنسان، والتي ما تزال غارقة في شبر الأزمة الاقتصادية، تخشى أن يؤثّر الاعتذار على سمعتها كحامية للحريات والحقوق، وأن يجرّها إلى تعويضات مالية ضخمة، وبالتالي أن يفتح صندوق باندور في باقي مستعمراتها

ويمكن القول إنّ بطاقة العلاقات الثنائية بين الجزائر وفرنسا يستعملها أغلب السياسيين بما في ذلك الرئيس الفرنسي الحالي. فالرئيس ماكرون الذي أقرّ في الجزائر عام 2017 بصفته مرشحًا للرئاسة، بأن بعض أساليب الاستعمار الفرنسي كانت جريمة ضد الإنسانية في محاولة لاستمالة الجالية الجزائرية التي يفوق عددها الخمسة ملايين، 80 في المئة منهم يحملون الجنسية الفرنسية، هو نفسه الذي أراد أن يغازل اليمين لعهدة ثانية عندما شكك في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار، وصرح بأن النظام الجزائري يعتاش على ريع الذاكرة.

"قنبلة موقوتة" قد تنفجر في وجه العلاقات الفرنسية الجزائرية

قد يكون ماكرون محقا بأن النظام يعتاش على الذاكرة، لكن بالنسبة لعموم الجزائريين جروح الذاكرة لم تندمل بعد، ولا يمكن القفز عليها بسهولة، حتى لو أراد النظام الجزائري ذلك.

فما يجمع فرنسا والجزائر ليس مجرد تاريخ مشترك، ولكنه بالنسبة للكثيرين في الجزائر، "أنهار من الدماء وجبال من الجماجم والأشلاء وعقود طويلة من الاستغلال وجرائم لا تسقط بالتقادم"، حتى إنّ بعضها لا يزال قائمًا إلى الآن كمخلفات التفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية وبقايا الألغام المزروعة في مناطق مختلفة.

وهذا ما يجعل ملف الذاكرة، مهما حاول الطرفان القفز عليه، بمثابة "قنبلة موقوتة" يمكن أن تتفجر في وجه العلاقات بين البلدين في أي مرحلة ما لم يتم تسويته بشكل صحيح وعادل، من خلال اعتراف الدولة الفرنسية بما اقترفته من جرائم واعتذارها وتعويضها للجزائريين كما فعلت العديد من الدول الاستعمارية لدول مستعمراتها السابقة.

لكنّ فرنسا التي تلاحق تركيا وتطالبها بالاعتذار للأرمن ترفض فكرة الاعتذار للجزائر، وقد قالها ماكرون بصريح العبارة: "لن أطلب الصفح من الجزائر". بمعنى آخر، فإنّ الرئيس ماكرون وحتى أسلافه يدركون جيّدًا تكلفة الاعتذار، رغم أنه سيشكل نقطة تحول كبرى في علاقات فرنسا ليس فقط مع الجزائر، بل على مستوى الوعي العالمي بآثار الاستعمار.

وإذا كان مثل هذا الاعتذار يمكن أن يؤسّس لبداية حقيقية لمصالحة عادلة وإنسانية، فإنّ الواضح أنّ فرنسا التي تقدم نفسها كأرض حقوق الإنسان، والتي ما تزال غارقة في شبر الأزمة الاقتصادية، تخشى أن يؤثّر الاعتذار على سمعتها كحامية للحريات والحقوق، وأن يجرّها إلى تعويضات مالية ضخمة، وبالتالي أن يفتح صندوق باندور في باقي مستعمراتها..

العربي

يقرأون الآن