اعترض الكثيرون، لا سيما نشطاء المجتمع المدني، على قانون العفو العام الذي أقرّ في اتفاق الطائف والذي أعفى ميليشيات الحرب الأهلية وقادتها من المسؤولية القانونية عمّا فعلوه خلال تلك الحرب. رأى المعترضون على العفو أنه فشل في تحقيق العدالة وسمح بالتالي لتلك الميليشيات بأن تستمر في استباحتها البلاد وتقاسمها المغانم، لكن هذه المرة بوسائل سلمية.
وراء هذا الاعتراض على قانون العفو تقبع نظرة إلى الحرب الأهلية صارت شبه سائدة اليوم، مفادها أنها كانت حرباً بين مقاتلين وتنظيماتهم، أما اللبنانيون الباقون فكانوا مجرد ضحايا وجدوا أنفسهم بدون خيار عالقين على خط النار. وقد أتى العفو ليحرم هؤلاء فرصتهم وحقّهم في العدالة ويثبّت سطوة تلك الميليشيات عليهم مرة أخرى.
هذه النظرة إلى الحرب الأهلية والتي تعفي اللبنانيين من ذنوبهم، حالت بينهم وبين الحاجة إلى مساءلة حقيقية لدورهم فيها، أو مراجعة لسردياتهم المتضاربة حول أحداثها وأسبابها. وهي روّجت لأكذوبة حياد الأهل في الحرب الأهلية.
فواقع الحال لا ينسجم مع هذه الرؤية إلى الحرب. إذ إن مقاتليها الذين خاضوا المعارك ورابطوا على خطوط التماس كانوا، بدرجة كبيرة، يترجمون رغبات أهلهم وجماهيرهم الواضحة، على الأقل في الحؤول دون أن يجتاح الطرف المقابل أحياءهم ومدنهم وقراهم ويخضعهم لإرادته.
فأكثر ما كان يرعب الجمهور المسيحي في السنين الأولى من الحرب الأهلية أن يتمكن مقاتلو الحركة الوطنية والفصائل الفلسطينية من الدخول إلى مناطقهم ويفعلوا بهم ما كان ذلك الجمهور يعتقد أنهم فعلوه بأقرانهم في الدامور. ولا شك في أن الجمهور المسيحي كان يرى في مقاتلي "الجبهة اللبنانية"، من "كتائب" و"أحرار" وغيرهم، خط الدفاع الأول الحائل دون حدوث ذلك. ولا عجب في أن يروا في بشير الجميل، أبرز قادة تلك المعارك، رمزاً لهم وشهيداً في سبيل خلاصهم.
في المقابل، كان الأهل في المناطق ذات الغالبية المسلمة يخشون أكثر ما يخشون أن تجتاح مناطقهم الميليشيات المسيحية تلك والتي كانوا يعتقدون انها ارتكبت مجازر السبت الأسود وغيرها، وأنها مستعدة لارتكاب مثيلاتها إذا ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. كذلك رأى جمهور تلك المناطق في مقاتلي "الحركة الوطنية" والمقاومة الفلسطينية "المرابطين على الثغور" دروعاً تقيهم تلك الأهوال.
ويصح القول نفسه على المراحل اللاحقة من الحرب الأهلية. فلا يُشكّ مثلاً في مدى تضامن الجماهير الدرزية مع مقاتليها في الحزب "التقدمي الاشتراكي" في حرب الجبل التي ثبّتت زعامة وليد جنبلاط إلى أقصى حد. أما المسيحيون، وإن لاموا قادة ميليشياتهم على فشلهم في حرب الجبل ونتائجها الكارثية عليهم، فإنهم لم يختلفوا معهم على أهدافها.
كذلك يسري الأمر على الجمهور الشيعي الذي تضامن مع مقاتليه من "حركة أمل" وحلفائها في انتفاضة الضاحية ومن بعدها انتفاضة 6 شباط على عهد أمين الجميل.
طبعاً، لم ترق للبنانيين تجاوزات تلك الميليشيات وسوء استعمالها للسلطة في المناطق التي كانت تسيطر عليها، لكن ذلك لا يتعارض مع إدراكهم أن تلك الميليشيات ذاتها كانت، في غياب البديل، جزءاً أساسياً من ضمان أمنهم.
فاللبنانيون إذاً لم يكونوا مجرد ضحايا وجدوا أنفسهم عالقين في حرب لا تعنيهم. لا بل كانوا متضامنين مع أطرافها كلٌ بحسب موقعه الأهلي. لذا فإن العفو العام الذي أقر في الطائف يجب أن يُفهم على أنه عفو متبادل أعطاه الشعب اللبناني عامة لنفسه، وليس مجرد هدية قدمها المجتمعون في الطائف للميليشيات وقادتها على حساب ذلك الشعب.
ذلك أن الحرب الأهلية لم تكن يوماً حرباً من دون أهلها.
نداء الوطن