الشيخ صباح الأحمد.. والأمن القومي العربي

مع نهاية زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي الى الكويت في الأسبوع الماضي، صدر بيان مشترك يحمّل الكويت ومصر مسؤولية التنسيق لتحقيق وحماية الأمن القومي العربي، للحفاظ على التراب العربي من الاستغلال، وتعميق سلامة هذا التراب، بالتواصل مع جميع الدول الاعضاء في الجامعة العربية، وتحضير آليات الدفاع عنه. والحقيقة أن كلا من البلدين، مصر والكويت، لهما تجارب مع هذا المفهوم، ولهما تقارب مستخلص، ليس من قراءات، وإنما من معايشة، فما جعلني أتوقف عند هذا الهدف جاء من عملي مع المرحوم الشيخ صباح الأحمد، منذ يناير عام 1964 وحتى بعد انتقالي الى نيويورك عام 1971، كنت على اطلاع وعلى اتصال، سواء في الكويت او في نيويورك، حول الملف الذي أشغل المرحوم الشيخ صباح الأحمد، من يوم عمله في الخارجية حتى وفاته عام 2020. كان الشيخ صباح الأحمد مهموماً بضرورات الوصول الى تفاهم عربي صادق وثابت، يخلق الارضية الجامعة ووحدة الموقف أو تقارب هذه المواقف إن تعذّر التوافق، كما كان مدركاً صعوبة وحدة الدبلوماسية العربية، ولكنه كان مهموماً بسلامة المبادئ التي تتمسك بها الدول العربية، وهي احترام سيادة كل دولة، وعدم التدخل في شؤونها، وتحقيق التعاون الجماعي، والالتزام بهذا المبادئ.

كانت حياته مكرّسة للوصول لدرجة عالية من وحدة الموقف، واحترام الجميع لصون استقلال سلامة كل دولة. كان مدركاً أن الانشقاق والتباعد يؤثران في الكويت ويحرجان تحركاتها ويضعفان مصداقيتها ويعطلان مسار دبلوماسيتها، وفوق ذلك يفيدان خصوم الكويت في إضعاف قدرتها على المواجهة، وأكثر من ذلك إيمانه بأن الكويت تعلو في مناخ الصفاء العربي، الذي تتوهج فيه مؤهلاتها في حسن النوايا وصدق المساهمة، ولا يتوقف مع تصاعد الخلافات العربية، بل يرتفع تصميمه، وأكثر ما كان يعجبني فيه مواصلة حسن النوايا وجمال التصرف، فلا يتوقف عند بوابة الصعوبات، ولا يذعن لمؤشرات اليأس، انشغل كثيراً في ثلاثة ملفات، ترأس اللجنة العربية لتحقيق التوافق في لبنان، وأعطاها ليس جهده فقط، وإنما آليات التأثير الكويتية، لكنه لم يستذق آليات التستر والإخفاء، ولم يستذق أسلوب الاحتراف في إخفاء الحقائق، وتحمّل كثيراً صابراً على نهج التخفّي والغموض، الى أن أدرك حجم المصدات والتعقيدات، وتخلّى غير آسف عن مواصلة هدر الطاقات واستغلال الفجوات.

وتظل أصعب وأعقد المساعي ما تمثّل في الجولات، التي أخذته متنقلاً بين القاهرة والرياض، حول مشكلة اليمن بعد الانقلاب على حكم الإمامة ونجاة الإمام، وتبنّي مصر الدفاع عن الانقلاب، ولجوء أنصار الإمامة الى المملكة.

كنت معه في هذه الجولات بين عام 1964 ــ 1966، كانت المواقف متباعدة، مع انعدام الثقة ورصد التحركات التي تزيد من التوتر والاقتراب من المواجهة. كان الملك فيصل ملتزماً الدفاع عن المملكة العربية السعودية، وضد التدخلات من جانب الجيش المصري، وكان الرئيس عبدالناصر مهموماً بالحفاظ على الوضع الانقلابي في اليمن، في جو اختفت منه الثقة بالتعهدات والتفاهمات، الى حد أن مصير الوضع ترك لما تفرزه المواجهات. ومع تصاعد التوتر، حمل الشيخ صباح الأحمد مقترحاً للقاء الزعيمين الملك فيصل والرئيس عبدالناصر في الكويت، بعد أن اتضح أن لقاء المستشارين، الذي عُقد في الكويت، لم يحقق أي تقدم.

كان الملك فيصل في هذه الاجتماعات مع الشيخ صباح الأحمد ملتزماً الدفاع عن المملكة، ويتقبّل ما يقرره اليمنيون المنقسمون بين الإمامة والثورة المدعومة بالجيش المصري.

ومع تصاعد التوتر، حمل الشيخ صباح الأحمد مقترحاً للقاء الزعيمين الملك فيصل والرئيس المصري جمال عبدالناصر في الكويت.

وكنت معه في ذلك اللقاء الحزين، وشارك فيه السفير الكويتي في القاهرة المرحوم حمد الرجيب. كان اللقاء دراماتيكياً، فلم يكن الرئيس في مزاج أخذ وعطاء، ولذلك كان اللقاء قصيراً، حيث رفض الرئيس المصري اللقاء مع الملك فيصل معتذراً بمواصفات غير متوقعة.

وبعد سنوات جاءت جولات الشيخ صباح الأحمد دفاعاً عن العراق، خلال حربه مع إيران، كانت مرهقة له، لكنه كان فدائياً موافقاً على ترؤس اللجنة العربية للدفاع عن مواقف العراق، حيث يتنقل الى مختلف الدول، مع طارق عزيز، شارحاً ومدافعاً عن العراق، ومتوقعاً تقديراً متكافئاً مع جولاته، لتلميع صورة العراق الذي لم يكن لامعاً، ثم يُفاجأ في فبراير 1990 بخطة عراقية لترسيم الحدود بين البلدين، يبلع فيها العراق جزر الكويت ويستمتع بميناء الشعيبة، يمارس فيه صدام حسين ما يريد. كان لقاء خابت فيه التوقعات، وانكشف فيه سوء النوايا، وتكتمل المفاجآت في مأساة الغزو، وبلا تخطيط تواجدت معه في السيارة نحو الحدود الى السعودية، كان الشيخ صباح متسائلاً عن مكان سمو الامير الشيخ جابر، الذي عبر الحدود قبل وصولنا، حيث توجهت الى مكتبي في الرياض لأتابع منه فصل الخيانة، التي زاد من مراراتها الانقسام العربي في إدانة الغزو، وتبرز حقيقة حجم الزعامات العربية، التي فشلت في إدانة الغزو، وما خلقته من نهاية للثقة بين العرب، ويبقى كل طرف يتعايش مع الدروس، التي استوعبها من كارثة الغزو، وأهم مواصفاتها انكشاف واقع الكويت وحقائق العرب. في الواقع الكويتي ضرورة تواجد الردع، الذي يؤمن سلامة الدولة في منطقة سجلها التاريخي فيه خداع وخيانة واستضعاف الآخرين والتآمر عليهم.

تبقى الخلافات العربية متواجدة في الفضاء العربي، ولن ينجح العرب في تبنّي دبلوماسية واحدة، لأن المواقع تختلف، وهي التي ترسم دبلوماسية كل دولة، ونحن في الكويت علمتنا التجربة ضرورات التحالف مع الشريك المؤثر، لكننا نتابع التبدلات العربية الى الواقعية، ليس في العلاقات فقط، وإنما في نوع وحجم هذه العلاقات.

فتحت الشروط التي وضعها الرئيس عبدالناصر على الكويت الطريق للتآمر على سيادتها، فقد ظلت منذ عام 1961 من دون رادع، لأن الشروط فرضت عليها إنهاء التحالف مع الحلفاء، والإيمان بقوة وسلامة التآخي العربي، الذي علمتنا دراما الغزو ضعف إمكاناته ومحتوياته. والمهم أن يتعلّم الآخرون من وقائع الكويت، فالأمن القومي العربي أحلام تتحول الى واقع، عندما تطغى سلوكيات الملائكة في إدارة الدولة، ولن نرى هذا الفصل طالما تفرّخ مدارس العرب السياسية طلاباً من نوع صدام حسين وفرقته، ويبقى الأمل موجوداً في استيعاب المستقبل العربي دروس الغزو.

القبس

يقرأون الآن