تكثر النظريات الشائعة حول الدماغ البشري التي تؤكد أن نصفه الأيسر مسؤول عن التفكير المنطقي والتحليلي، بينما يُنسب للنصف الأيمن الإبداع والخيال، غير أن هذه النظرة، رغم انتشارها، تتسم بالمبالغة والاختزال المفرط.
الانقسام الدماغي: حقيقة تشريحية وفهم مضلل
الدماغ البشري مقسوم فعليا إلى شقين يفصل بينهما تجويف واضح، هذا الانقسام دفع علماء النفس في القرن التاسع عشر إلى صياغة فرضيات تربط بين كل نصف ووظائف عقلية محددة، حتى المناطق المركزية في الدماغ، مثل المهاد وتحت المهاد وجذع الدماغ، رغم كونها متصلة نسيجيا، إلا أنها تتوزع على الجانبين الأيمن والأيسر، وفقا لـ StarsInsider.
تحكم متقاطع ووظائف متداخلة
من المعروف أن النصف الأيسر يتحكم في حركة الجهة اليمنى من الجسم، والعكس بالعكس، لكن هذا لا يعني أن لكل نصف سيطرة حصرية على نوع معين من التفكير أو السلوك، فالفكرة القائلة إن الإنسان "منطقي لأنه يستخدم النصف الأيسر" أو "فنان لأنه يعتمد على النصف الأيمن" لا تستند إلى أدلة علمية قوية.
منشأ الخرافة العلمية
تعود جذور هذا التصنيف الحاد إلى القرن التاسع عشر، حين لاحظ الأطباء أن بعض المرضى الذين فقدوا القدرة على الكلام يعانون من تلف في الفص الصدغي الأيسر. هذا الاكتشاف دفع للاعتقاد بأن اللغة حكر على هذا الجانب من الدماغ، ومن هنا انطلقت فرضية تقسيم الوظائف الذهنيّة.
تأثير الفكرة على الأدب والثقافة
تغلغلت هذه الفكرة إلى الثقافة الشعبية، وأثّرت حتى في الأدب، كما في رواية "الدكتور جيكل والسيد هايد" للكاتب روبرت لويس ستيفنسون، التي صوّرت صراعا داخليا بين نصف عقل عقلاني وآخر عاطفي، بين النظام والفوضى.
العلم يُصحّح المفاهيم
لكن الأبحاث اللاحقة أظهرت أن الأشخاص الذين فُصل نصفا دماغهم جراحيا أو يفتقدون أحدهما منذ الولادة، لا يفقدون قدراتهم الذهنية بالكامل، بل يمكنهم أداء مهام منطقية وإبداعية على حد سواء، ما يؤكد أن التعاون بين نصفي الدماغ ضروري وأساسي.
لا جهة مهيمنة... ولا دماغ "منطقي" أو "مبدع"
تشير الدراسات الحديثة إلى أن بعض الوظائف تميل إلى التمركز في أحد النصفين—كاللغة في الأيسر والانتباه المكاني في الأيمن— لكن هذا التوزيع يتعلق بطبيعة الوظيفة وليس بشخصية الفرد، فلا وجود لما يسمى "سيطرة نصف دماغي" عند البشر.
الإبداع والمنطق وجهان لعملة واحدة
حل المشكلات المعقدة يتطلب مزيجا من التفكير المنطقي والابتكار، حتى الفنون، التي يُعتقد أنها حكر على الجانب الأيمن، تحتاج إلى حسابات دقيقة وتنظيم منطقي. والنتيجة؟ الدماغ لا يعمل كنصفين متنافسين، بل كوحدة متكاملة ذات مهام موزعة.
الدماغ: منظومة متكاملة أشبه بالحكومة
يشبه الدماغ البشري نظاما إداريا معقدا، حيث تعمل أقسام مختلفة بتنسيق تام. هذا التصميم يُعزز من قدرة الإنسان على التكيّف؛ فإذا تعطّل جزء ما، قد تعوّضه أجزاء أخرى لضمان استمرار الوظائف الحيوية.
كيف يتعاون النصفان؟ أمثلة وظيفية
فهم شامل وتفصيلي: الأيمن يلتقط الصورة الكلية، بينما الأيسر يركّز على التفاصيل.
السلوك والتحكم: الأيسر يميل إلى بدء السلوك، والأيمن يضبطه.
اللغة مقابل الصورة: الأيسر يعالج الكلمات، والأيمن يتعامل مع الصور والمجردات.
المنطق والتفكير الكلي: الأيسر يشتغل بالتفكير المتسلسل، والأيمن بالتفكير الشمولي.
الحركات الدقيقة والكبيرة: الأيسر يتعامل مع المهارات الدقيقة كالرسم، والأيمن مع الحركات الكبرى كالمشي.
وتخلص هذه النتائج إلى أن النصفين لا يعملان في عزلة، بل إنهما يشكّلان معا منظومة معرفية متكاملة، تدحض الفكرة السطحية بأننا "نفكر بنصف معين فقط". الإبداع والمنطق، اللغة والتخيل، كلها تعتمد على تعاون معقّد بين جانبي الدماغ.