ماذا بعد مائة عام على كتاب

خلال العام الجارى سيكون قرن من الزمان قد مر على الصدور الأول لكتاب "الإسلام وأصول الحكم"، هذا الكتاب الذى عاش صاحبه على عبدالرازق (١٨٨٨- ١٩٦٦) بعده أربعة عقود، يعانى الهجمات والعزلة ويمارس الكتابة بحذر ورهاب مما أحدثه كتابه الأول، فكان قليل الإنتاج، ولم يصدر له بعده إلا كتابان هما الأمالى وآخر حول الإجماع جمع محاضراته فى الموضوع بكلية الحقوق.

لم يكن الشيخ على عبدالرازق غير صوت تاريخى وواقعى، قرأ تاريخ المسلمين، وحاول تحرير عقيدتهم مما شابها باكرًا من فتن الإمامة التى ما سُلَّ سيف فى الإسلام كما سُل عليها، كما كان يقول الشهرستانى صاحب "الملل والنحل"، رآها مسألة تاريخية واجتهادية تقديرية كما رآها الإمام الجوينى صاحب الغياثى، وافترض زوالها دون تأثير على الناس كما افترض إمام الحرمين، وعرف أن الأمر أمر شوكة كما فعل كثير من فقهاء وكتاب الأدب السياسى الإسلامى منذ القرن الرابع الهجرى، ولكن الرجل لم يتحمله أحد، ولم ينصفه أحد، ولاشك أن كتابه ودعوته وطرحه المتخلص من صراخ البكاء على سقوط الخلافة التى صدر بعدها بعام، يحتاج إلى المراجعة وإعادة القراءة المنصفة لأطروحات الكتاب وسياقاته. يبدو كتاب على عبدالرازق وطرحه ردًا من محاولة وطموح ثلاثة عشر حاكمًا فى العالم الإسلامى، لمنصب الخلافة، رغم فقدانها دورها، وحركات وجماعات فى زمانه لاستعادتها مثل حركة الخلافة الهندية (١٩١٩- ١٩٢٤) بقيادة شوكت على، وانضم إليها أبوالكلام أزاد فى مرحلته الأولى، حتى جماعات ودعوات استعادة الخلافة والحاكمية المستمرة حتى الآن، من جماعة الإخوان المسلمين سنة ١٩٢٨، وحزب التحرير سنة ١٩٥٣، وصولًا لحركات أنصار الخلافة بأفغانستان، وداعش (تنظيم الدولة) سنة ٢٠١٤، ولايزال السيل مستمرًا! بل تظل فكرة الخلافة. بعد مائة عام من صدور الكتاب ربما علينا أن نؤكد أن الشيخ على عبدالرازق كان جزءًا من سياقه، ومتفاعلًا مع واقعه، كما لم يأتِ بخارجية شاذة لم يسبق إليها، قدر ما تعاطى وحاول علاج مرض الفتن الكبرى والصغرى حول الإمامة والخلافة، تاريخًا وواقعًا، وتكلم، مستبقًا إذا شئنا دعوة تجديد علم العقيدة والكلام، التى بدأها المفكر الهندى الراحل شبلى النعمانى (١٨٥٧- ١٩١٤) إلى دعوة الشهيد مرتضى مطهرى (١٩١٩- ١٩٧٩) وصولًا لجهود كثيرين بعدهم، وكان الجامع بين كثير ممن يهتمون بهذا الطرح هو تخليص مباحث العقيدة من مبحث الإمامة والحكم أو الحاكمية بالتعبير المعاصر، الذى تأيقن، وصار كأنه ثابت دينى لا خلاف عليه ولا اختلاف فيه، رغم أن الخلافة كانت منذ بدايتها شأنًا دنيويًا أكثر منه شأنًا دينيًا، وأمرًا اجتهاديًا تقديريًا يخضع للشوكة والاستيلاء فى تاريخنا، ولم يكن شرطه يومًا الاستقامة الدينية أو العقدية، فكل ولاية بحسبها، كما يقول ابن تيمية وغيره. كما نرى أن صدور الكتاب "الإسلام وأصول الحكم" كان حلقة مهمة فى سلسلة استمرت سنوات قبله وبعده حول الفرق بين الخلافة والسلطنة من جهة وحول شرعية الخلافة ثم إلغائها من جهة أخرى، ربما كانت بدايتها فى قرار الكماليين الذين سيطروا على المؤسسة التشريعية بتركيا بالفصل بين الخلافة عن السلطنة، وعزل السلطان وحيد الدين، بعد تورطه فى مساندة الحلفاء الذين احتلوا البلاد ضد المقاومة، وسقوط صورته، وصعود صورة أتاتورك، وفى هذا السياق صدر ووقّع عدد من العلماء والبرلمانيين الأتراك تقريرًا عن الفصل بين الخلافة والمجلس الوطنى، تم تعريبه على يد عبدالغنى سنى بك سنة ١٩١٤، بعنوان "الخلافة وسلطة الأمة" وتمت إعادة نشره وقدم له المرحوم الدكتور نصر حامد أبوزيد. وقد تم نفى وحيد الدين خارج البلاد وتعيين خليفته عبدالمجيد الثانى فى ١٩ نوفمبر من هذا العام، والذى تم نفيه بالغائها ونفى كل بنى عثمان معه وحملهم على ترك البلاد، ورغم نشاط حركة الخلافة الهندية فى دعمه إلا أنه سريعًا ما استقر الأمر للأتاتوركيين، ولكن رغم نقد كثير من المفكرين والعلماء والفقهاء لأداء الخليفة والخلافة وضعف دورها، إلا أنه بعد سقوطها انقلبوا يبكونها وغيابها..

نسوا أنها الشيخ المريض الذى انكسر مع الحرب العالمية الأولى، شأن الإمبراطوريتين الروسية والألمانية، لكن ضعفه كان أظهر قبل ذلك بعقود، مع احتلال أغلب الدول الإسلامية فى القرن التاسع عشر. نعم لم يكن إقرار إلغاء الخلافة على وجدان المسلمين والأتراك سهلًا، وبعد سقوطها بقى حلمها يراود ثلاثة عشر حاكمًا عربيًا ومسلمًا، وتمت الدعوة لاستعادة الخلافة، وعُقدت مؤتمرات ثلاثة لاستعادة الخلافة، كان آخرها فى مصر سنة ١٩٢٦، والذى انتهى إلى استحالة قيامها واستعادتها، وعدم تاريخية أو واقعية قيامها من جديد بعد استقرار الدول الوطنية، وبقاء الاستعمار فى كثير من الدول العربية والإسلامية، ولكن السهام وُجهت لصدر هذا الرجل فقط الذى صرح برؤيته وكتابه قبل مائة عام.

المصري اليوم

يقرأون الآن