رغم مرور ستين عاماً على إعدام الجاسوس الإسرائيلي الأشهر إيلي كوهين في ساحة المرجة بوسط العاصمة السورية دمشق، لاتزال الألغاز شديدة التعقيد تحيط به، فيما تعول إسرائيل على 2500 وثيقة وتسجيلات أثناء التحقيق معه، استعادتها مؤخراً لكشف المزيد من الحقائق حوله، وفي مقدمتها مكان وجود رفاته أملاً في استعادته، وكذلك حسم طريقة اكتشافه وتتبعه، والتي تتضمن العديد من الروايات.
وتشمل مجموعة الوثائق الجديدة الخاصة بإيلي كوهين تسجيلات ووثائق أثناء استجوابه لدى المخابرات السورية، وتفاصيل عن جهات اتصاله، ورسائل مكتوبة بخط اليد إلى عائلته في إسرائيل، وصوراً من عملياته في سوريا، وممتلكات شخصية صودرت من منزله بعد اعتقاله، بما فيها مفاتيح شقته.
وحتى اليوم، لا توجد رواية قاطعة حول كيفية اكتشاف المخابرات السورية لهوية كوهين الحقيقية، ولا تزال هناك عدة نظريات قائمة، تشير إحداها إلى أن السوريين كانوا يراقبون بالفعل شخصاً مهماً التقى بكوهين. وتشير نظرية أخرى إلى أن عادة كوهين في تصوير المواقع الاستراتيجية خلال جولاته في مرتفعات الجولان أثارت الشكوك. كما تزعم رواية ثالثة أن عملاء الموساد الذين تعامل معهم ضغطوا عليه لزيادة وتيرة إرسال الرسائل، بما في ذلك معلومات عن أمور ليست ذات أهمية. ونتيجةً لذلك، تم اعتراض رسائله المشفرة بشفرات مورس، بواسطة أجهزة كشف متطورة آنذاك.
ومن أكثر الروايات واقعية حول كيفية اكتشاف حقيقة عميل الموساد إيلي كوهين الذي دخل سوريا، باعتباره مستثمراً يدعى كامل أمين ثابت، وتحت ضغط مُشغّليه في إسرائيل، وثقته المفرطة بقصته السرية، بدأ ببثّ رسائل مُشفرة مورس بشكلٍ شبه يومي باستخدام جهاز تلغراف كان يُخفيه في منزله. لكن جهاز الإرسال الخاص به اعترضه جهاز تابع للجيش السوري كان مقابل شقته، ما أدى إلى تتبعه وفي النهاية إلى القبض عليه، بحسب ما أوردت صحيفة نيويورك تايمز، وأكده ديفيد بارنيا، مدير الموساد، في عام 2022.
أين مكان رفاته؟
في مرحلة ما من البحث، اكتشف الموساد أن جثة إيلي كوهين نُقلت من المقبرة اليهودية في دمشق، حيث دُفنت أولًا، عدة مرات إلى أماكن أخرى، على ما يبدو في محاولة لإبعاد إسرائيل عن مسارها. وخلص بعض مسؤولي الاستخبارات الإسرائيلية إلى أنه حتى الاستخبارات السورية لم تعد تعلم مكان دفن الجاسوس الإسرائيلي.
ولم يتضح بعد ما إذا كانت الوثائق الجديدة ستلقي الضوء على مكان دفن كوهين، الذي ولد في محافظة الإسكندرية المصرية عام 1924، لأبوين يهوديين سوريين، ثم انتقل إلى إسرائيل عام 1957، والتحق بجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بعد ثلاث سنوات. حتى أرسله الموساد إلى دمشق، حيث كان من المقرر أن يتظاهر بأنه رجل أعمال سوري ثري عاد مؤخراً من الأرجنتين.
الساعة الشهيرة
ولم تكن هذه المرة الأولى التي يُكرّس فيها الموساد وقتاً وموارد كبيرة لاستعادة بعض ممتلكات كوهين، ففي عام 2018، استعاد ساعة يد تخصه، والتي كان يرتديها وقت القبض عليه، وتعد قطعة فاخرة استخدمها لتعزيز هويته كرجل أعمال ثري وكسب ثقة معارفه السوريين، وتم الوصول إليها أثناء محاولات البحث عن رفاته.
وفي محاولة الوصول إلى رفاته، علم الموساد أن أحد الأشخاص احتفظ بساعة كوهين، والتي اشتراها خلال إحدى رحلاته لأوروبا وكانت من نوع «إيتيرنا ماتيك سنتينير 61» باهظة الثمن، ثم تمكن من استعادتها ويبدو أنها كانت معروضة للبيع بطريقة ما، وقد عثر الموساد على وثائق تُثبت شراء الساعة من سويسرا، كما تأكد أنها تعود لكوهين.
كوهين والاعتراف الوحيد للموساد
خلال سنواته الثلاث كعميل سري في سوريا مطلع ستينات القرن الماضي، بنى كوهين علاقات وثيقة مع كبار المسؤولين السوريين، وقدّم معلومات عسكرية واقتصادية وأمنية لإسرائيل، وصراعات داخل السلطة، ورغم فائدة هذه المعلومات فإن كثيراً من مسؤولي المخابرات في إسرائيل يعتبرون أن كوهين كان نموذجاً للنجاح والفشل في آن واحد، بعد الإيقاع به ومحاكمته ثم إعدامه.
وفي حين قُتل أو جُرح العديد من عملاء الموساد وجنود القوات الخاصة الإسرائيليين، فإن إيلي كوهين يحتل مكانةً فريدةً لدى إسرائيل، ويكفي أنه عميل الموساد الوحيد الذي اعترفت الوكالة رسمياً بأسره وإعدامه.
وبعد استعادة الوثائق الجديدة والتي تضمنت الرسالة الأخيرة لعائلته قبل وفاته، أكدت صوفي ابنة كوهين ضرورة استعادة رفات والدها، ويأمل الموساد أن يساعد تحليل هذه الوثائق التي تم الكشف عنها مؤخراً في توضيح كيف نجحت المخابرات السورية في كشف العميل المعروف باسم «رجلنا في دمشق»، والذي نجح في التسلل إلى أعلى مستويات حزب البعث والحكومة السورية.