ثلاثة تصريحات مهمة لترمب وأعضاء من إدارته تعكس نهجها في السياسة الخارجية. الأول لترمب في الرياض الذي قال: «ولّت الأيام التي كان فيها التدخليون الغربيون يطيرون إلى الشرق الأوسط لإلقاء المحاضرات عن كيفية العيش، وكيفية إدارة شؤونكم الخاصة»، الثاني لنائبه جي دي فانس الذي انتقد في خطاب أخير له فكرة «بناء الأمم والتدخل بشؤون الدول الأخرى»، والثالث لمبعوثه لسوريا توم برّاك الذي كتب في منشور على «إكس»: «لقد انتهى عصر التدخلات الغربية... المستقبل يعود للحلول الإقليمية المبنية على الشراكات والدبلوماسية القائمة على الاحترام».
لو أردنا اختصار الرؤية الترمبية فهي عدم التدخل. ومن الواضح أن ترمب يقصد في حديثه أسلافه. بوش تَدَخَّلَ في أفغانستان والعراق، وبايدن تَدَخَّلَ في أوكرانيا، وأوباما تَدَخَّلَ في «الربيع العربي»، ومن ثم الاتفاق النووي الذي يوصف بأنه سَلَّمَ مفاتيح المنطقة لطهران.
ولكن عدم التدخل فكرة عامة وفضفاضة خصوصاً عندما تعلنها الدولة الأقوى في العالم. ماذا تعني تحديداً؟ من الصعب تخيل أن أميركا ستشكل العالم الذي نعيش فيه لو لم تتدخل في مناطق عديدة من العالم. لو لم تهزم ألمانيا النازية، وتمنع صعود ألمانيا المتوحشة كان من الصعب على أوروبا أن تستقر وتزدهر اقتصادياً. وهذا ما فعلته عندما حولت ألمانيا إلى ديمقراطية مسالمة. لو لم تهزم اليابان وتغيرها سياسياً واقتصادياً لكان من الصعب أن تنتعش الدول الشرق آسيوية التي عانت من الغزوات اليابانية المستمرة. كان من الصعب على الصين أن تغير مسارها وتزدهر لو كانت اليابان العسكرية متأهبة للاعتداء عليها.
ويجادل بعض المؤرخين بأن انسحاب أميركا بعد الحرب العالمية الأولى هو الذي أفضى إلى صعود ألمانيا النازية، وهو الخطأ الذي لن تكرره بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن تعلمت الدرس جيداً.
في الخليج، رأينا التدخل الأميركي الذي حرر الكويت، وأعادها للخريطة بعد أن تلاشت لأشهر. ماذا لو حدث العكس؟ ربما لابتلع صدّام الكويت حتى هذا اليوم. هل كان الخليج سيستقر ويتجه أكثر للتنمية مع وجود جار غاضب يهددهم على الدوام؟ على الأرجح لا. وهذه إشكالية دول الخليج القديمة مع إيران التي زرعت المنطقة بالميليشيات، ورعت التنظيمات العنيفة، وشكّلت خطراً على خططها المستقبلية، وتعمل على عقد شراكة وصلح طويل الأمد على أمل أن يتغير سلوكها.
تنظيم «القاعدة» من أشرس التنظيمات، وهو أكثر خطورة من تنظيم «داعش» الذي احتل مناطق شاسعة من العراق وسوريا، لكنه تلاشى في سنوات قليلة. ماذا لو لم تقرر واشنطن في عهد الرئيس بوش الابن ملاحقة هذا التنظيم الخطير والقضاء عليه؟ ماذا لو قررت كما كانت تنادي بعض الأصوات في واشنطن بالاكتفاء بالقضاء على قيادته وعدم مطاردته في معقله في أفغانستان؟ الجواب مرة أخرى واضح. سنعاني من العمليات الإرهابية في المنطقة، وأميركا ستكون قادرة على حماية أراضيها ومصالحها. رغم بشاعة أحداث 11 سبتمبر (أيلول) فإنها قدمت خدمة كبيرة بالقضاء على «القاعدة»، وتخليص المسلمين من العمليات الإرهابية المخطط لها في ديارهم (لا ننسى أن المسلمين هم أكثر ضحايا العمليات الإرهابية).
كل ما ذكرناه كان تدخلات إيجابية، ولكن هناك تدخلات أفضت إلى نتائج سلبية. التدخل في العراق ومحاولة صناعة بلد ديمقراطي. أثبتت التجربة فشلها لافتقار العراق لأي مؤسسات ديمقراطية سابقة أو ثقافة ليبرالية، ترافق ذلك مع قرارات حل الجيش العراقي، ودخول واشنطن بقوات محدودة بحسب خطة رامسفيلد المتعثرة منذ البداية. وبعد انسحاب الرئيس أوباما سيطرت إيران على العراق، ودخلنا في دوامة جديدة.
بين التدخل الإيجابي والسلبي، ماذا يقصد ترمب تحديداً؟ هناك تفسيران: الأول عدم فرض نظام حكم ونشر آيديولوجيا معينة، حتى لو كانت الديمقراطية. هذه سياسة ذكية لأن لكل الدول مؤسساتها وتاريخها وقيمها وثقافتها الخاصة، وتتطور بحسب إيقاعها الخاص. والمهم في هذه الحالة تقوية العلاقة مع الحلفاء التقليديين لواشنطن الذين أسهموا في بناء النظام السياسي المستقر والاقتصادي المزدهر الذي شكَّل ملامح العالم في العقود الأخيرة. من دون هؤلاء الحلفاء من أوروبا إلى كوريا الجنوبية إلى اليابان إلى السعودية، من الصعب أن نرى العالم كما نعيشه الآن؛ ولهذا، حاول الاتحاد السوفياتي نشر الآيديولوجيا الاشتراكية، والتحالف مع قوى تحارب حلفاء واشنطن والغرب مثل عبد الناصر وماو... وغيرهما. هذا التفسير الأقرب، ولكن يوجد تفسير آخر هو الانعزالية الكاملة تحت ستار عدم التدخل بشكل كامل ومهما كانت الظروف، إلا في حال التعرض للمصالح الأميركية، وهناك من يشجع ترمب على هذا الاتجاه، ومن أبرزهم الرئيس الروسي بوتين الذي احتل دولة ذات سيادة، ولا يريد أن يدفع الثمن، ويبحث عن مكافأة. عدم احترام سيادة الدول أمر بالغ الخطورة، وعدم تدخل قوى عظمى لوقف الانتهاكات كما حدث في حرب صدّام على الكويت سيشجع آخرين على القيام بذات الشيء، وتلقِّي ذات المعاملة.
في تغريدة توم برّاك مبعوث ترمب لسوريا ذهب في سياسة عدم التدخل إلى أبعد مما كان يريد رئيسه، ملقياً باللوم على مشروع سايكس بيكو، وكأن الذي يتحدث من الأنصار المعادين للمعسكر الغربي الذين يلقون اللوم بحس مؤامراتي على مخططي سايكس بيكو، ولكن الحقيقة أن سايكس بيكو أتى بعد الحرب العالمية الأولى بعد هزيمة الدولة العثمانية، وعادة ما يحدث التقسيم بعد انهيار أو هزيمة الإمبراطوريات. حدث هذا مرات كثيرة في التاريخ، أبرزها تقسيم الهند وباكستان بعد ضعف الإمبراطورية البريطانية. والحقيقة ليس «سايكس بيكو» الذي تسبَّب في الحروب والنزاعات والمجاعات وعمليات الإبادة بالغازات الكيمائية. السوريون ثاروا على بشار الأسد، وليس على «سايكس بيكو» الذي خط حدود بلادهم التي يدافعون عنها.
الشرق الأوسط