تكنولوجيا آخر تحديث في 
آخر تحديث في 

في عالم العطور... هل يُمكن للذكاء الاصطناعي أن ينافس حاسة الشم البشرية؟

في عالم العطور... هل يُمكن للذكاء الاصطناعي أن ينافس حاسة الشم البشرية؟

رغم التقدم المتسارع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، لا يزال الخبراء في صناعة العطور يؤكدون أن حاسة الشم البشرية تتمتع بقدرات فريدة تفوق التكنولوجيا في تقييم الروائح وتحليلها.

و أكدت خبيرة العطور سو فيليبس أن التدريب على حاسة الشم يتيح للإنسان استعادة التمييز بين الروائح، كما لوحظ لدى مرضى كوفيد-19 الذين يعانون من فقدان حاسة الشم، وهو دليل على تعقيد هذه الحاسة التي يصعب استبدالها بالآلات.

تستخدم شركات العطور الذكاء الاصطناعي لمساعدة المصممين في استكشاف مكونات جديدة وتسريع عمليات البحث، لكن المنتج النهائي يحتاج دائمًا إلى الاختبار والتقييم البشري لضمان جودة وروعة العطر.

علاوة على ذلك، هناك تحديات تقنية مثل القدرة على اكتشاف الروائح المركبة والمتداخلة بدقة، والتكيف مع اختلاف تفضيلات الثقافات حول العالم، حيث تلعب العواطف والتقاليد دورًا كبيرًا.

باختصار، الذكاء الاصطناعي أصبح أداة مهمة في تطوير العطور، لكنه لا يستطيع استبدال الحاسة البشرية التي تتمتع بقدرة مدهشة على التمييز العميق والتفاعل العاطفي مع الروائح.

في المختبرات الكيميائية لشركة «سيمرايز» الألمانية، تترك رائحة الحمضيات أثرها على ثياب مجموعة من «أنوف» المستقبل، وهم خبراء شمّ يخضعون للتدريب لابتكار عطور مستحضرات للغسيل والاستحمام تضاهي في تركيبتها أفخم العطور.

هؤلاء الأبطال المجهولون في عالم الغسيل ذي الرائحة الزكية يؤثرون على مشاعر ملايين المستهلكين الذين غالبا ما تكون رائحة أي منتج عاملاً حاسماً في شرائهم.

وتُكتسب هذه المهارة في مدرسة العطور التابعة لشركة «سيمرايز» العالمية الانتشار، إحدى أكبر خمس شركات في العالم لتصنيع العطور والروائح لمستحضرات النظافة المنزلية والعناية بالجسم والمنتجات الغذائية.

في مقر الشركة في هولزميندن بالقرب من هانوفر في وسط ألمانيا، يتضمن برنامج كل صباح التمرين نفسه: التعرف بشكل عشوائي على 12 رائحة من بين عشرات الزجاجات المُصنّفة من المواد الخام.

و«الأمر أشبه بضبط آلة موسيقية» قبل العزف، بحسب الإسبانية أليسيا دي بينيتو كاسادو (32 عاما) التي كانت عازفة بيانو محترفة قبل أن تغيّر مسارها المهني وتدرس صناعة العطور.

كانت أليسيا في مراهقتها تبتكر عطوراً خيالية تتناسب مع قصائدها ومقطوعاتها الموسيقية.

أما ما يهمها اليوم، فهو «ابتكار عطور قوية وجميلة (...) بأسعار معقولة» للزبائن.

- تمييز 500 رائحة -

وتنطوي هذه المهنة على تعقيدات مفاجئة، ما يوضح سبب استمرار دراستها ثلاث سنوات.

وقالت أتيّا سيتاي، وهي طالبة جنوب إفريقية تبلغ 27 عاما، أن رائحة مُنعّم الأقمشة قد تحتوي على «ما يصل إلى 80 مكوّنا، أي أكثر بكثير من عطر الجسم الفاخر».ويُفترض أن يكون «الأنف» الجيد (وهي التسمية التي تُطلق على خبير الشمّ) قادرا على تمييز أكثر من ألف رائحة وهو معصوب العينين، «لكن حفظ نحو 500 رائحة عن ظهر قلب كافٍ لمعظم الأعمال اليومية»، على ما أوضح الطالب الصيني البالغ 31 عاما شانغيون ليو.

في طفولته، كانت رائحة الياسمين الآسرة توحي له بزهرة جميلة. أما اليوم، فقال إنه يستطيع «التعرف على الجزيئات الكيميائية التي تُكوّن العطر».

يزِن الطلاب بدقة المكوّنات بدقّة، ويخلطونها، ويشمّونها، ويعيدون إنتاج تركيبات المنتجات الحالية لفهم بنيتها والتعمق فيها. ورأت أليسيا أن «ثمة حقيقة كامنة في جوهر كل عطر، ولكن ثمة أيضا ابتكار تنبغي إضافته».

وأشارت إلى أن مواد كالقرنفل أو الورد «قد تبدو قديمة الطراز، ولكن يمكن إعادة ابتكارها».

- الإبداع في ظل القيود -

وفي عملهم الابتكاري، يتعين على «الأنوف» مراعاة القوانين، إذ غالبا ما يضطرون مثلا إلى «الاستعاضة عن المكونات المحظورة بجزيئات جديدة أكثر استدامة»، بحسب أتيّا.على سبيل المثال، حُظر منذ عام 2022 في الاتحاد الأوروبي استخدام زهرة الليليال، المعروفة بعطرها الشبيه بزنبق الوادي، لكنها تُعدّ مسببة لحساسية الجلد.

ومن التحديات الأخرى ضرورة أن تتوافق عطور المنتجات المنزلية ومستحضرات التجميل مع أذواق كل سوق، إذ «قد يبدو شيء قديم الطراز في مكان ما جديدا في مكان آخر»، وفق شانغيون.

ففي الصين، اجتذب شامبو مستوحى من عطر «كوكو مادموازيل» من «شانيل»، ومُعزز بالباتشولي، زبائن من فئة الشباب، بينما يبدو في أوروبا أن عطرا كهذا لم يعد مواكباً لمتطلبات الزمن.

وتؤدي البيئة أيضا دورا مهما في ابتكار العطور الصناعية. وتستخدم «سيمرايز» راتنجات الخشب المتبقية من صناعة الورق لاستخراج المواد الخام العطرية، وهو خيار «سليم اقتصاديا ًوبيئياً»، على قول خبير العطور مارك فوم إنده البالغ 56 عاما والذي يشرف على المتدربين الشباب.

وتحتاج مهنة تمييز العطور إلى جهد جماعي، إذ «من الضروري أن يشمّ أشخاص عدة العطر، لأن كل شخص يقاربه بشكل مختلف».

ويشرح أن «تدريب هذه العقول الخلاّقة التي لكل منها أفكاره الخاصة، ليس بالأمر السهل دائما!».

وبات الذكاء الاصطناعي يؤدي دوراً مساعداً في التنبؤ بالعطور التي قد تنجح. ولكن «في النهاية، الكلمة الأخيرة تكون دائما للأنف»، على ما قال فوم إنده.

وسيسافر المتدربون، وهم خمسة من الدفعة التي أكملت تدريبها أخيرا، للعمل في فروع المجموعة ذات الحضور العالمي، إذ ستذهب أليسيا إلى مكسيكو، واتيّا إلى ساو باولو وشانغيون إلى نيوجيرسي.

ولا يزال العاملون في هذه المهنة نادرين، إذ يعمل في هذا القطاع نحو 500 خبير عطور، من بينهم 80 في «سيمرايز» التي تضم 13 ألف موظف وتبيع 30 ألف منتج، نصفها عطور فاخرة وصناعية، ونصفها الآخر روائح غذائية، وهي الركيزة الثانية للمجموعة.  

يقرأون الآن