تعيش الزراعة اللبنانية لحظة مصيرية تهدد وجودها تحت وطأة أزمة مركبة غير مسبوقة، حيث تتضافر عوامل التغير المناخي الحاد مع انهيار أسواق التصدير وارتفاع تكاليف الإنتاج لترسم صورة قاتمة لمستقبل القطاع. بينما تسجل معدلات الأمطار انخفاضاً كارثياً وصل إلى النصف هذا العام، يعاني المزارعون من شحٍّ حادٍّ في المياه وانهيار لأسعار محاصيلهم في ظل إغلاق الأسواق التقليدية.
كما تبرز أزمة محصول البطاطا في البقاع كنموذج صارخ لهذه الكارثة. إذ تحولت الزراعة من مصدر رزق إلى عبء ثقيل يدفع آلاف العائلات إلى حافة الهاوية.
الجفاف يضرب لبنان
يكشف وزير الزراعة نزار هاني لـ"وردنا"، عن "معطيات صادمة حول الوضع المناخي. حيث انخفض معدل الهطول المطري هذا العام إلى النصف مقارنة بالسنوات العادية، إذ لم تتجاوز أيام الهطول المطري والثلجي 45 يوماً، في حين أن المعدل الطبيعي يتراوح بين 100 و105 أيام"، كما أوضح الوزير.
هذه الظواهر المناخية ليست عابرة، بل هي نتاج تغيرات مناخية تتوقع الدراسات استمرارها حتى عام 2050، مع تداعيات كارثية على الموارد المائية والزراعية".
كما يعلن الوزير، عن "حزمة إجراءات تشمل تشجيع أنظمة الري الحديثة، وإنشاء البرك والخزانات المائية، حيث يغطي "المشروع الأخضر" نصف تكاليفها. كما تعمل الوزارة على توجيه المزارعين نحو زراعة محاصيل أقل استهلاكاً للمياه. وفي إطار الدعم، تنفذ الوزارة مشاريع تنموية بقيمة 80 مليون دولار، بالإضافة إلى قرض من البنك الدولي بقيمة 200 مليون دولار".
لكنّ هذه الجهود تبدو غير كافية أمام حجم الكارثة التي يعيشها المزارعون على الأرض، حيث تحولت الزراعة إلى كابوسٍ يُلاحقهم في يوميّاتهم، لتُضاف إلى الهموم الاقتصاديّة والمعيشيّة والخدماتيّة الضّاغطة أساساً.
مأساة مزارعي البطاطا
يقدم رئيس نقابة مزارعي البطاطا في البقاع غابي فرج شهادة مؤلمة عن الوضع الكارثي: "المزارع يخسر هذا العام ما يقارب 500 دولار للدونم الواحد (1000 متر مربّع)".
إذ ارتفعت تكاليف زراعة الدونم إلى 1100 دولار، بينما انهار سعر البيع إلى 220 دولاراً لطُنّ البطاطا الواحد فقط. "هذا يعني أن المزارع يخسر نحو 550 دولاراً عن كل دونم يزرعه"، كما يوضح فرج.
ويقول لـ"وردنا": "الوضع في السوق المحلي لا يبعث على التفاؤل أيضاً، حيث تراجع الاستهلاك اليومي من 500 طن إلى 150 طن فقط. المحاصيل التي يتم حصادها اليوم لا تجد من يشتريها، بحسب فرج، مما يضطر المزارعين إلى تخزينها في البرادات على أمل قد لا يتحقق".
من جانبه، يسلط مسؤول العلاقات الخارجية في اتحاد النقابات الزراعية علي شومان الضوء على أزمة التصدير: "أصبحت تكاليف الشحن البحري باهظة، حيث تستغرق الشحنة 50 يوماً للوصول إلى الخليج". كما أن "أسواق الإمارات والكويت ما زالت مغلقة أمامنا"، بينما تواجه البضائع اللبنانية إجراءات تفتيشٍ وتدقيقٍ مشددة في الأردن تصل إلى حد إتلاف المحاصيل بسبب طول الوقت والإجراءات.
في ظل هذا الوضع الكارثي، يكشف شومان لـ"وردنا"، عن توجه بعض المزارعين إلى زراعة القنب الهندي للأغراض الطبية كحل أخير: "هذا القرار يأتي بعد أن فقدنا الأمل في دعم الدولة أو المجتمع الدولي".
نداءات استغاثة وحلول مقترحة
يطالب المزارعون بحلول عاجلة تشمل الآتي:
- فتح خط الترانزيت عبر السعودية
- دعم مالي مباشر (100-150 دولاراً للطن)
- حل المشكلات السياسية العالقة
-فتح أسواق جديدة في أفريقيا
"إنقاذ قطاع البطاطا هو إنقاذ لآلاف العائلات"، كما يؤكد فرج، الذي يُشدّدُ على أنّ "الوقت يداهمنا، والمزارعون ينتظرون خطوات عملية تنقذهم من الانهيار التام".
وأكد وزير الزراعة، أنّ الوزارة تعكف على إعداد خطة زراعية متكاملة للسنوات 2026-2035، تركز على التكيف مع التغير المناخي وترشيد استهلاك المياه وتنويع الأسواق التصديرية.
لكنّ السؤال الذي يبقى عالقاً: هل ستأتي هذه الخطط في الوقت المناسب لإنقاذ آلاف العائلات التي تعتمد على الزراعة؟ أم أنّ القطاع الزراعي في لبنان مقبل على تحول جذري قد يغير وجهة الرّيف اللبناني إلى الأبد؟".
التغيّر المناخي لم يعد تهديداً مستقبلياً بل واقعاً ملموساً يضرب عصب الاقتصاد الوطني، بينما تكشف أزمة التصدير عن هشاشة البنية التحتية والتواصل السياسي. صرخات المزارعين في البقاع ليست مجرد شكاوى عابرة، بل إنذار أخير يدقّ ناقوس الخطر حول انهيار النظام الزراعي بأكمله إن لم تُتخذ إجراءات جذرية وسريعة.
أمام هذا المشهد، تبرز الحاجة إلى خطة إنقاذ عاجلة تجمع بين الحلول التقنية لمشكلة المياه والضغط الدبلوماسي لفتح الأسواق، مع إعادة نظر جذرية في السياسات الزراعية.