في الوقت الذي شدد فيه مساعد الرئيس الإيراني، مهدي طباطبائي، على أن "الظروف الراهنة غير مهيأة للتفاوض مع الولايات المتحدة"، بدت طهران وكأنها تعيد إنتاج خطابها التقليدي المتمثل بإرجاء الحوار والتفاوض مع واشنطن إلى لحظة أكثر ملاءمة، مع ترك الباب موارباً بانتظار زيارة الرئيس مسعود بزشكيان إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر أيلول المقبل.
غير أن وراء هذا الخطاب الظاهري، تتكشف طبقات أعمق من الصراع، تعكس أزمة ثقة بين أجنحة السلطة في إيران، وتثير أسئلة جدية حول طبيعة القرار السياسي ومن يتحكم فعلياً بخيوطه.
صراع الأجنحة
رغم إصرار المسؤولين الإيرانيين على الحديث عن "انسجام استثنائي" بين مؤسسات الدولة والمرشد، فإن مصادر غربية مطلعة أكدت، لـ"إرم نيوز"، أن الانقسام داخل هرم السلطة لم يُحلّ، بل جرى تجميده مؤقتاً.
وأشارت هذه المصاد إلى وجود تيار براغماتي داخل الحكومة وأوساط اقتصادية نافذة يرى في التفاوض مع الولايات المتحدة خياراً اضطرارياً لإنقاذ النظام من الانهيار الاقتصادي، بينما يتشبث التيار المتشدد المدعوم من الحرس الثوري برفض أي تسوية قد تُفسَّر على أنها تراجع عن "الثوابت الثورية".
وتضيف المصادر أن خامنئي نفسه اضطر خلال الأشهر الأخيرة إلى قبول مبدأ استئناف الاتصالات غير المباشرة مع واشنطن، تحت ضغط الواقع الاقتصادي، لكن القرار لا يزال محاطاً بشبكة من الضمانات التي تسمح للتيار المتشدد بتعطيله أو إعادة صياغته في أي لحظة.
وتشير المصادر، إلى أنّ الحرس الثوري يمارس عملياً وظيفة "الفيتو" غير المعلن على أي انفتاح تفاوضي. ورغم أن خامنئي يُقدَّم بصفته صاحب القرار الأعلى في شؤون السياسة الخارجية، فإن الضوء الأخضر الذي يمنحه لأي انفتاح تفاوضي لا يكون مطلقاً، بل محاطاً بعبارات عامة من قبيل: "المفاوضات لا تعني الاستسلام"، أو "الخطوط الحمراء محفوظة".
وبحسب المصادر فإن هذه الصياغات المرنة تمنح الحرس الثوري هامشاً واسعاً لإعادة تفسير توجيهات المرشد بما يخدم مصالحه. وبهذا يتحوّل الحرس إلى "ضابط الإيقاع" الفعلي، يضع الخطوط الحمراء ويرسم حدود التنفيذ، دون أن يبدو في موقع التحدي المباشر.
"بهذا الأسلوب يحافظ النظام على ازدواجية مقصودة؛ فالمرشد يظهر بصفته المقرِّر النهائي، فيما يضمن الحرس الثوري بقاء نفسه حارساً لـما تسميه طهران بالثوابت، وبذلك تُدار الانقسامات تحت غطاء الانسجام المزعوم".
المفارقة التي تلفت إليها المصادر أن السلطة الإيرانية تنتج خطابين متناقضين في آن واحد؛ خطاب علني يوحي بالانفتاح والاستعداد للتفاوض لتخفيف الأعباء الاقتصادية، وخطاب داخلي أكثر تشدداً يصوّر أي تنازل على أنه خيانة للثورة. هذه الازدواجية المقصودة تعكس هشاشة القرار، إذ يضطر النظام إلى إرضاء جمهوره المتشدد في الداخل، بينما يلمّح للغرب بمرونة محتملة في الخارج.
حكومة الظل
تصريحات طباطبائي، التي شددت على أن أي قرار تفاوضي يحتاج إلى موافقة المرشد، تكشف عملياً عن وجود "حكومة ظل" تتحكم بمسار السياسة الخارجية بعيداً عن المؤسسات الرسمية، وفق مصادر "إرم نيوز".
هذه الحكومة غير المعلنة تضم قيادات من الحرس الثوري وهيئات الأمن القومي، وتعمل على صياغة خيارات طهران التفاوضية وفق حسابات استراتيجية تتجاوز قدرات الحكومة التنفيذية.
كما أشارت إلى أن دور الرئيس بزشكيان في السياسة الخارجية "أقرب إلى المتحدث باسم النظام منه إلى صانع القرار"، مؤكدةً أن "الملفات الحساسة، مثل النووي والعلاقة مع واشنطن، تظل محصورة في دائرة ضيقة يقودها مكتب المرشد بالتنسيق مع قيادات الحرس".
هذا النمط من إدارة الدولة يكشف ضعفاً بنيوياً مزدوجاً في إيران، بحسب حديث الباحث في الشؤون الإيرانية سعيد كعب، لـ"إرم نيوز"، فمن جهة، يضعف موقع الحكومة أمام الداخل الإيراني، حيث تبدو عاجزة عن رسم سياسات مستقلة، ومن جهة ثانية، يفقدها القدرة على تقديم التزامات جدية أمام الخارج، لأن كل اتفاق قد يُعاد تفسيره أو حتى نقضه وفقاً لتوازنات القوى داخل حكومة الظل، وهو ما يفسر التردد المزمن في مفاوضات طهران مع الغرب، حيث يظل الغموض سمة مقصودة لإبقاء جميع الأطراف في حالة انتظار وترقب.
الأهم أن استمرار هذا النموذج يعكس استراتيجية متعمدة لإدارة الانقسام لا لحله، وفق الباحث في الشؤون الإيرانية. فوجود مستويات متوازية من السلطة (العلن والظل) يسمح للنظام بالمناورة؛ يُظهر الحكومة باعتبارها راغبة في الانفتاح والتفاوض، فيما يحتفظ الحرس والمرشد بحق الاعتراض أو التراجع، دون أن يتحمل أي طرف وحده تكلفة الفشل. هذا الاستخدام المزدوج للمؤسسات الرسمية وغير الرسمية يؤكد أن ما يسمى بـ"الانسجام" في القيادة الإيرانية ليس إلا واجهة سياسية لإخفاء صراع داخلي دائم.
مناورة الأربعين يوماً
التركيز الإيراني على مهلة الأربعين يوماً حتى موعد الجمعية العامة يعكس سياسة إيرانية تقليدية قائمة على شراء الوقت، سواء لترتيب التوازنات الداخلية أو لاستغلال متغيرات خارجية محتملة. وتؤكد المصادر حيال ذلك بأن طهران تراهن على أن الأسابيع المقبلة قد تشهد تحولات في موقف إدارة ترامب، وهو ما لن يحصل وفق المصادر، ما سيزيد الضغوط أكثر على إيران خلال فترة الخريف المقبل.
في حين يكشف النفي المتكرر لوجود انقسامات داخل القيادة عن عمق الأزمة لا عن غيابها. فالتأكيد المستمر على وحدة الصف يوحي بوجود خلافات جدية يجري التعتيم عليها، خصوصاً أن المرشد اضطر للقبول بالتفاوض باعتباره "ضرورة لبقاء النظام". هذا التوصيف بحد ذاته وفق المصادر، يضعف سردية الانسجام، ويظهر التفاوض كخيار اضطراري وليس كاستراتيجية مدروسة.
المحلل السياسي المتخصص في الشؤون الإيرانية، محسن زغلول، أشار خلال حديثه، لـ"إرم نيوز"، إلى أن التفاوض لم يعد خياراً سيادياً في إيران، بقدر ما بات عرضاً مرضياً لبنية مأزومة.
وأضاف أن "النظام الإيراني وهو يتحدث عن احتمال المفاوضات كضرورة للبقاء، يعلن ضمناً أنه فقد القدرة على إنتاج بدائل استراتيجية. فالمساومة أصبحت ملاذاً قسرياً، ما يجعل إيران تدخل أي حوار بموضع المهدَّد وليس الشريك. هذا التحول يضعف قدرة النظام على إدارة أوراقه؛ لأن الطرف الذي يدخل المفاوضات باعتبارها مسألة حياة أو موت، لا يستطيع أن يفرض شروطاً بقدر ما يسعى لتأجيل انهياره".
لذا؛ فإن التركيز الإيراني على مهلة الأربعين يوماً لا يعكس فقط رغبة في شراء الوقت، بل يكشف أيضاً عن آلية داخلية لإدارة الخلافات بين أجنحة النظام، بحسب زغلول.
وتابع أن "المهلة الزمنية تتحول عملياً إلى فترة اختبار تسمح لكل جناح بتسويق رؤيته داخلياً. البراغماتيون يروّجون لفكرة أن الأفق قد ينفتح في نيويورك، والمتشددون يوظفون نفس المهلة للتأكيد على أن الظروف غير ناضجة وأي تنازل سيكون مكلفاً. بهذا المعنى، تستخدم طهران الوقت للتفاوض مع الخارج ولتدبير صراعاتها الداخلية عبر تأجيل الحسم".
واعتبر المحلل السياسي المتخصص في الشؤون الإيرانية أن النفي المتكرر لوجود انقسامات داخل القيادة ما هو إلا جزء من استراتيجية الإنكار المُمأسسة التي يعتمدها النظام الإيراني، لافتاً إلى أن هذا النمط يُنتج معضلة؛ فكلما زاد الإنكار، زادت مؤشرات الانقسام، ما يضعف صورة الانسجام التي يسعى النظام لترسيخها.
ختاماً، فإن ما يتضح من مجمل هذه المؤشرات أن طهران لا تتعامل مع التفاوض كمسار يؤدي إلى تسوية نهائية، وإنما كأداة لإطالة عمر النظام؛ فالهدف ليس الوصول إلى اتفاق شامل، بل الدخول في جولات متقطعة من المساومة تسمح لها بالتنفس الاقتصادي وتخفيف الضغوط الداخلية، دون تقديم تنازلات جوهرية في البرنامج النووي أو سياساتها الإقليمية.