خاص وردنا- بين تعميم المصرف وعجز الدولة:

في خطوةٍ تُوّجت جهداً استباقياً لحماية ما تبقى من القطاع المصرفي من عاصفة العقوبات الدولية، أطلق مصرف لبنان تعميمه رقم 170، مُجَدِّداً تحذيره للمصارف من التعامل – بشكل مباشر أو غير مباشر – مع أي جهة لبنانية خاضعة للعقوبات الدولية، ولا سيما عقوبات مكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأميركي (OFAC).

غير أن اللافت في البيان التوضيحي الذي أصدره المصرف المركزي لاحقاً، هو سحبه للبساط من تحت أي توقعاتٍ بدوره الميداني في ملاحقة الجهات المشبوهة خارج نطاق سلطته، مؤكداً أن مسؤوليته "تبقى محدودة في الصلاحيات والنطاق"، وأن "المسؤولية الكاملة" تقع على عاتق "الدولة والوزارات المعنية".

وفي هذا الإطار، يوضح الخبير الاقتصادي عماد الشدياق لـ"وردنا" أن "البيان الصادر عن مصرف لبنان مؤخرًا ليس إلا تذكيرًا بمضمون التعميم رقم 170، الذي كان قد صدر منذ بضعة أسابيع. الهدف من البيان هو إعادة التأكيد على ما ورد في التعميم، وليس إعلانًا عن أي إجراء جديد".

ويضيف الشدياق أن "مصرف لبنان يوضح أن مسؤوليته وصلاحياته محدودة، ولا تشمل اتخاذ قرارات تنفيذية خارج نطاق الصلاحيات التنظيمية. فدوره يقتصر على تحديد الجهات التي يُسمح بالتعامل معها، وتلك التي لا يُسمح، دون الدخول في تفاصيل تنفيذية أو اتخاذ خطوات تتجاوز ذلك".

يأتي التعميم في إطار سعي مصرف لبنان اليائس إلى الحفاظ على آخر جسور التواصل بين المصارف اللبنانية ونظيراتها الدولية، وخاصة الأميركية منها، التي تُشكل شريان الحياة لتحويلات الدولار. فسماح أي مصرف لبناني – عن قصد أو غير قصد – بمرور أموال مشبوهة عبره، قد يعرّضه لعقوبات أميركية فورية، تقطع عنه هذا الشريان وتُعزله مالياً بشكل كامل، بما يشبه "النفي" عن النظام المالي العالمي.

آلية دفاع وليس استسلاماً!

يُفسّر الخبير الاقتصادي أنطوان فرح لـ"وردنا" هذه الخطوة على أنها "آلية دفاعية ضرورية" وليست استسلاماً للضغوط، ويؤكد أن "المصارف اللبنانية، تاريخياً، كانت حريصة على الحفاظ على علاقات جيدة مع المصارف الدولية، وأن سياسة الابتعاد عن الأموال المشبوهة ليست جديدة، بل هي جزء من سياسة ثابتة".

ويلفت فرح إلى أن البيان التوضيحي للمصرف المركزي هو "تأكيد على أن دوره كمنظم يقتصر على إصدار التعميم ومراقبة تطبيقه" داخل القطاع المصرفي، بينما تقع مسؤولية ملاحقة الجهات غير المرخصة – مثل جمعية القرض الحسن أو غيرها من المؤسسات التي تعمل في الاقتصاد الموازي – على عاتق "الدولة اللبنانية ووزاراتها المعنية".

ويرى في هذا البيان "رداً غير مباشر" على تصريحات رسمية نسبت للمصرف مسؤوليات أوسع مما يملك.

ويتفق هذا التفسير مع ما ذهب إليه الشدياق، الذي يرى أن توقيت إصدار التذكير "قد يعطي انطباعًا وكأنه مرتبط بضغوط خارجية أو تحضيرات لعقوبات محتملة على لبنان — كأن يوضع البلد مثلًا على 'اللائحة السوداء' في حال عدم الامتثال لمتطلبات مكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال، لكنه يستدرك بالقول إنه "بحسب المعلومات، لا وجود لضغوط أميركية مباشرة، بل إن مصرف لبنان يؤدي ما هو مطلوب منه فقط، ويُحمّل المسؤوليات المقبلة للجهات الأخرى المعنية، خاصة الحكومة اللبنانية".

ويخلص الشدياق إلى أن البيان بمثابة تنظيف يد من أية إجراءات مستقبلية، ويؤكد أن المصرف قد قام بما عليه ضمن صلاحياته.

ويضع فرح إصبعَه على الجرح الحقيقي الذي يُعيق أي رقابة فعلية: "نعيش في اقتصاد نقدي، خرجنا من الاقتصاد المالي، وبالتالي خرجنا من نطاق الرقابة على حركة الأموال". هذه البيئة، وفقاً له، هي التي تجعل لبنان "في موضع شبهات دائمة" وتُصعّب عملية تتبع الأموال غير المشروعة.

وهنا تكمن المعضلة الحقيقية التي يُسلط عليها التعميم 170 الضوء دون أن يحلها: فبينما يمكن لمصرف لبنان أن يضبط عمل المصارف المرخصة، فإن الجزء الأكبر من الأموال المشبوهة يتحرك خارج هذا النظام، عبر شبكة معقدة من الجهات غير الخاضعة لأي رقابة، مما يجعل التعميم – رغم أهميته – محدود الفعالية دون تحرك جدي من أجهزة الدولة القضائية والأمنية.

جمعية القرض الحسن: وجهٌ فقط من وجوه الاقتصاد الخفي

يُحذّر فرح من التبسيط المفرط الذي يحصر فهم التعميم بمواجهة "جمعية القرض الحسن" فقط، مشيراً إلى أن "القرض الحسن هو وجه من وجوه الاقتصاد غير الشرعي"، مؤكداً أن "التعميم 170 بالطبع يشمل القرض الحسن، لكنه ليس حصرياً له"، بل هو موجه لحماية القطاع المالي من "كل الشبهات" المرتبطة بالجمعيات غير الشرعية التي تعمل في الظل.

الرسالة التي يبعثها مصرف لبنان عبر تعميمه وبيانه التوضيحي تبدو واضحة: لقد قام بواجبه كمنظم للقطاع المصرفي، وحذّر من العواقب، ووضع الأطر. أما الملاحقة الفعلية، والإقفال، وتطبيق القانون على الجهات التي تعمل خارج النظام، فهي معركة أخرى، أسلحتها بيد الدولة ومؤسساتها.

يقرأون الآن