يطلّ «لبنان الجديد» في القمة التي تَستضيفها الدوحة لبحث العدوان الاسرائيلي على قطر، بحيث سيكرّس موقعَه كجزءٍ لا يتجزأ من الإجماع العربي (والإسلامي) على التنديد بالاعتداء السافر على العمق الخليجي والقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ورفْض التصريحات العدوانية لبنيامين نتنياهو.
ويمثّل لبنان في القمة رئيس الجمهورية جوزاف عون الذي نَجَحَ مع رئيس الوزراء نواف سلام وحكومته في وضْع البلاد مجدداً على «رادار» الاهتمام العربي والدولي وبدء «إعادة تكوين» رصيدها الخارجي من خلال إعلاء الدولة خيار استعادة مقوّماتها وحصر السلاح بيدها الذي بات قراراً انطلق مَسارُ تنفيذه الشاق والشائك خصوصاً في شقّه المتعلق
وستشكّل مشاركةُ عون في قمة الدوحة، قبل أيامٍ من انتقاله الى نيويورك لترؤس وفد لبنان إلى أعمال الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة، فرصةً لعقدِ لقاءاتٍ مع عدد من رؤساء وقادة الدول والتداول في شأن واقع المنطقة الذي صار متشابكاً مع اللوحة الأكثر تعقيداً على المستوى الدولي انطلاقاً من «ملعب النار» الأوكراني وتشظياته المتعدّدة الاتجاه التي تَشي بمحاولاتِ ترسيمٍ جديدة للنفوذ العالمي عبر مَحاور وتكتلاتٍ كالذي أطلّ رباعياً من بكين قبل 10 أيام.
كما لن يغيب الوضعُ اللبناني عن هذه اللقاءات ولا عن كلمة عون في قمة الدوحة، في ضوء استمرار اسرائيل بمعاندة التزام اتفاق وقف النار (27 تشرين الثاني/ نوفمبر) ولا «مبادئ» ورقة الموفد الأميركي توماس براك التنفيذية لهذا الاتفاق والتي ترتكز على مبدأ «الخطوة مقابل خطوة»، وهو المسار الذي بادرت بيروت إلى إطلاقه عبر قرار حصر السلاح بيد الدولة (5 آب/ اغسطس) ثم تبنّي أهداف مقترح واشنطن (7 آب/ اغسطس) فتبنّي خطة الجيش التنفيذية لسَحْبِ سلاح «حزب الله»، مؤكدة أن هذا «القطار» الذي له أيضاً «سكّة» لبنانية (اتفاق الطائف والبيان الوزاري وخطاب القسم) مرسومة منذ أكثر من 30 عاماً لن يتوقّف وسيوازيه ضغطٌ ديبلوماسي وسياسي لإلزام تل ابيب بإنهاء اعتداءاتها واحتلالها وإطلاق الأسرى.
وفي حين يَلقى هذا المسار احتضاناً عربياً ودولياً متزايداً مع معاينةٍ لصيقةٍ للخطوات التنفيذية، خصوصاً في ضوء اعتراض «حزب الله» بالصوت العالي على تسليم سلاحه وعلى معادلة «الخطوة مقابل خطوة» متمسكاً بمعادلة «لتنفذ اسرائيل ما عليها وبعدها يُبحث السلاحُ في إطار حوار داخلي حول الإستراتيجية الدفاعية»، فإنّ بيروت تَمْضي في إعطاء إشاراتٍ إلى أنها لن تتراجع عن عمليةٍ باتت عملياً «القفل والمفتاح» في ما خصّ درء المخاطر العالية لحرب اسرائيلية متجددة كما إطلاق ورشة الإعمار والنهوض برافعةٍ خارجية لا مفرّ منها.
ولا يفوّت لبنان الرسمي فرصةً لتظهير انخراطه «الذي لا عودة عنه» في نظام المصلحة العربي كما حرصه على صون كل «منصات الدعم» الدولي له، وهو ما عبّر عنه قيامُ سلام بالتوازي مع تهنئته الرئيس محمود عبّاس على «الإنجاز الدبلوماسي الكبير الذي تحقق في الجمعية العامة العامة للأمم المتحدة باعتمادها بغالبية غير مسبوقة إعلان نيويورك الذي لا يتبنّى حل الدولتين فحسب، بل يربط تحقيقه بمهلٍ زمنية محددة»، بالاتصال بالمسؤولين في كل من السعودية وفرنسا «لشكرهم على رعايتهم لهذا الإعلان والجهود المشتركة التي بذلوها لتحقيق هذه النتيجة وزيادة الاعترافات بدولة فلسطين».
في موازاة ذلك، كان ملف سَحْبِ سلاح المخيمات الفلسطينية يخطو خطوةً جديدةً في الاتجاه الذي أُرسي منذ توقيع البيان المشترك بين عون وعباس في 21 أيار/مايو 2025 ابان قمة بيروت والذي وضع إطاراً سياسياً للتنسيق حول وضع المخيمات وضبط السلاح غير الشرعي، وهو ما بدأت ترجمته قبل أسابيع قليلة على الأرض بإشراف لجنة لبنانية – فلسطينية تُعنى بمتابعة التنفيذ وتفاصيله.
وبعدما كانت حركة «فتح» شرعت في تسليم دفعات من سلاحها المتوسط والثقيل من مختلف المخيمات، خصوصاً بيروت وجنوب الليطاني، سلّمت قوات الأمن الوطني أمس، خمس شاحنات محمّلة بالسلاح من مخيم عين الحلوة في صيدا، وثلاث من مخيم البداوي شمالاً الى الجيش اللبناني، في عملية جرت تحت إشراف أمني مشترك، وبإجراءات دقيقة حرصت على تجنّب أي احتكاك داخل الأزقة المكتظة.
وتعاطت أوساط مطلعة مع المشهد الراهن على أنه يتجاوز كونه مجرد إجراء تقني لإخراج سلاح من المخيمات، معتبرة أنه يُقرأ على مستويين:
– داخلياً، كرسالة لإعادة تنظيم العلاقة بين «فتح» ومن خلْفها منظمة التحرير الفلسطينية وبين الدولة اللبنانية، والحد من ظاهرة تحويل المخيمات بقعاً عسكرية خارج السيطرة.
– وخارجياً، كإشارة سياسية بأن منظمة التحرير وقوات الأمن الوطني تسعيان لإثبات التزامهما بالقانون اللبناني وسيادة الدولة، في لحظة إقليمية ودولية مشبعة بالتحولات.
لكن الأبعاد الرمزية، وفق هذه الأوساط، قد تكون أعمق من المعطيات التقنية. فمخيم عين الحلوة ليس مجرّد تجمع سكني، بل مَركز ثقل سياسي واجتماعي يحتضن مجموعات متباينة الولاءات. من هنا، فإن تسليم شاحنات السلاح منه حمل دلالةً على استعداد فصائل بعينها، وعلى رأسها «فتح»، للالتزام بالاتفاقات، أو على الأقل الشروع في تأسيس علاقة مؤسساتية جديدة مع الدولة اللبنانية.
ومع ذلك، تبقى الطريق وعرة، إذ اقتصرت عمليات التسليم حتى الآن على العمود الفقري لفصائل منظمة التحرير، بينما بقيت قوى أخرى، خصوصاً الحركات الإسلامية خارج هذا الإطار.
وهذا يطرح السؤال الأبرز: ما موقف «حماس» وبقية الفصائل غير المنضوية في منظمة التحرير؟ وحتى الساعة، تشير المعطيات إلى وجود حوار مفتوح معها، لكن من دون نتائج ملموسة، إذ لم تُعلن «حماس» أو حلفاؤها نيتهم المشاركة في عمليات التسليم، ما يجعل أي نجاح محقَّق هشّاً ومعلّقاً على إمكان توسيع التفاهم.
في المقابل، تبرز، بحسب الأوساط نفسها، فرص لنسج تفاهمات جديدة بين الدولة اللبنانية والقيادة الفلسطينية. فالتعاون لا يقف عند حد تسليم السلاح، بل يمتدّ إلى برامج لتحسين الخدمات المعيشية داخل المخيمات كجزء من معادلة «الأمن مقابل الحقوق».
وتقول مصادر فلسطينية لـ «الراي»، إن نجاح المبادرة لن يُقاس بعدد الشاحنات، بل بمدى القدرة على تحويل الاتفاق إلى برامج عملية توفر الحماية الاجتماعية، وتوجِد فرصَ العمل، وتنظّم الإدارة الداخلية للمخيمات بما يحفظ كرامة اللاجئين وحقوقهم.
وأوضحت مصادر فتحاوية أن الحركة سلّمت دفعة من سلاحها الثقيل والمتوسط بعد جمْعه في أحد مستودعاتها في منطقة جبل الحليب داخل مخيم عين الحلوة، ومنه نُقل عبر طريق فرعية كانت مقفلة بسواتر ترابية جرى فتْحها وصولاً إلى موقع الجيش اللبناني المحاذي في منطقة سيروب، تفادياً للمرور بشوارع المخيم.
وقد أشرف على عملية التسليم مدير فرع مخابرات الجيش اللبناني في الجنوب العميد سهيل حرب، ومن الجانب الفلسطيني مدير الأمن في قوات الأمن الوطني في لبنان العميد ابراهيم الخطيب.
وتُعتبر عملية تسليم السلاح في عين الحلوة خطوة مهمة وذات دلالة سياسية وأمنية، نظراً لما يمثله المخيم؛ فهو عاصمة الشتات ومركز القرار، وفيه فسيفساء سياسية متداخلة ومعقدة. وهي المرحلة الرابعة التي أنجزتها قوات الأمن الوطني بعد: الأولى في برج البراجنة بتاريخ 21 آب/ اغسطس 2025، والثانية في مخيمات جنوب الليطاني: الرشيدية، البص، والبرج الشمالي بتاريخ 28 آب/ اغسطس، والثالثة في مخيمات بيروت: برج البراجنة، شاتيلا، ومار الياس بتاريخ 29 آب/ اغسطس.
وخلاصة القول، بحسب الأوساط المطلعة، أن ما جرى خطوة كبيرة وذات دلالة، لكنها ليست نهاية الطريق. فالتقدّم الحقيقي سيُقاس بمدى شمولية الاتفاق وتوسيع دائرته لتشمل مختلف الفصائل، وبقدرة الدولة اللبنانية على موازنة الأمن بالبُعد الإنساني والاجتماعي. وإذا اقتصرت العملية على تسليم طرف واحدٍ من دون بناء معادلة مستدامة لتَقاسُم المخاطر والمكاسب، فستظل الصورة منقوصة وربما موقتة، ريثما تتضح موازين القوى في المخيمات وما حولها.