في ظلّ الذاكرة المثقلة بكارثة مرفأ بيروت وما خلّفته من جراح عميقة، يطلّ مجدداً هاجس جديد يُهدّد لبنان من بواباته الصناعية والبيئية والأمنية، يتمثّل في مشروع إنشاء خزّانات غاز ضخمة في منطقة برج حمود - الدورة. هذا الملف الذي يختزن أبعاداً خطيرة على حياة المواطنين وأمنهم، عاد إلى الواجهة مع فتحه مجدداً خلال عام 2025 في ظلّ العهد الحكومي الجديد، بعد ورود معلومات تؤكد أنّ الأعمال مستمرّة بشكل غير قانوني، رغم قرار التوقّف الرسمي السابق.
فقد تبيّن، بحسب ما كشفته جمعية "غايا" عبر "وردنا"، أنّ إحدى الشركات المجاورة لمنطقة الخزانات، رفعت كتاباً رسمياً إلى رئاسة الحكومة، أشارت فيه إلى أنّ شركة "يونيغاز" بدأت بإنشاء خزان جديد بسعة 5060 متر مكعب من الغاز المضغوط، من دون الحصول على التراخيص البيئية أو الصناعية المطلوبة، مطالبة الحكومة بالتدخّل العاجل لوقف المشروع لما يشكّله من خطر داهم على المنطقة وساكنيها.
وتوضح أمين عام جمعية "غايا"، السيدة غادة حيدر لـ"وردنا" أنّ الملف ليس جديداً، إذ تعود بداياته إلى عام 2020 حين تقدّمت الجمعية بملف كامل عن مخالفات الشركة، بعدما اكتشفت أنّها لا تقوم بترميم أحد خزّاناتها فحسب، بل تبني خزّانات جديدة بقدرة تفوق بأضعاف ما هو مسموح به قانوناً. ومنذ عام 2021، وُضع الملف في عهدة كلّ الرؤساء والنواب، ما يعني أنّ الجميع على علم ويتحمّل مسؤولية مباشرة.
والأسباب التي تجعل المشروع بمثابة قنبلة موقوتة في قلب منطقة مأهولة، عديدة، أبرزها أنّ سعته الإجمالية تصل إلى 14,120 متر مكعب من الغاز المضغوط، وهي كمية عادةً ما تُخزّن في مناطق صناعية نائية، لا في منطقة سكنية مكتظة كبرج حمود تضم مدارس ومستشفيات ومصانع ومتاجر. كما أنّه لم تُجرَ أي دراسة للأثر البيئي خلافاً لما يفرضه القانون، ولم تلتزم الشركة بإشراف معهد البحوث الصناعية كما طلبت وزارة الصناعة.
إلى جانب ذلك، لم تحظ الشركة بترخيص بلدي رسمي بل اكتفت بإفادة من رئيس البلدية من دون علم المحافظ أو التنظيم المدني. وقد تبيّن بحسب حيدر، أنّ الخرائط المقدمة للوزارات متناقضة، وهو ما اعتُبر تزويراً واستعمالاً للمزور بموجب إخبار قضائي صدر عام 2022. الأخطر أنّه لا تتوافر أي معلومات عن وجود أنظمة لكشف التسرب أو خطط إخلاء في حال وقوع حادث. كل هذه العوامل تجعل المشروع قنبلة مؤجّلة للانفجار وسط منطقة سكنية مكتظة.
وبحسب خبراء، فإنّ أي تسرب ولو بسيط مع شرارة واحدة قد يؤدي إلى انفجار يوازي تسعة أضعاف انفجار مرفأ بيروت. فخزّانات الغاز المضغوط التي تتجاوز سعتها 14 ألف متر مكعب تحتوي على غازات سريعة الاشتعال كالبروبان والبيوتان، ما يعني أنّ أي حادث سيؤدي إلى تدمير المباني المحيطة بالكامل، وانهيار البنى التحتية من طرق وشبكات مياه وكهرباء، فيما ستمتد الحرائق إلى المنطقة برمّتها. أما الخسائر البشرية والمادية فستكون هائلة، تترافق مع حالات اختناق جماعي نتيجة تسرب الغاز، وتلوّث الهواء والتربة والمياه، فضلاً عن الأثر الاجتماعي والنفسي الكارثي على المواطنين.
ما يزيد من خطورة الوضع، انّ منطقة الخزانات نفسها تعرّضت لإنفجار في احد مصافيها في آذار من العام 1989، لم يسبق له مثيل في تاريخ الحرب اللبنانية، ووصفه احد الخبراء بانفجار نووي صغير.
صوت الانفجار حينها، أيقظ المواطنين في جميع انحاء بيروت، محدثا اضرارا مادية فادحة قدرت بالمليارات خصوصا وان شعاعه امتد الى ساحل كسروان شمالا، واعالي المتن شرقا والروشة والرملة البيضاء غربا، وما لحق من تدمير فعلي في المنازل والمؤسسات التجارية في الاشرفية وعين الرمانة والدورة والبوشرية والزلقا وعمارة شلهوب والجديدة ونيو جديدة والفنار حتى انطلياس والنقاش والرابية.
والى الواقع الآن، وعن تعاطي السلطات، تشير حيدر إلى أنّ الحكومة الجديدة لم تُبدِ أي خطوات عملية، بل إنّ وزير الصناعة السابق جورج بوشكيان أعاد إصدار تراخيص وُصفت بالمشبوهة، متجاهلاً قرارات مجلس شورى الدولة التي قضت بوقف العمل وإزالة المخالفات. وترى الجمعية أنّ التجاهل الرسمي اليوم أسوأ من السابق، إذ لا حدود لصمّ الآذان أمام التحذيرات المتكررة.
ووفقا للمعلومات التي حصل عليها "وردنا"، فثمّة دور محتمل لكارتلات نفطية وغازية تمارس ضغوطاً سياسية واقتصادية لمنع توقيف المشروع، مستفيدةً من تقاطعات المصالح بين القطاع والطبقة السياسية. وتشير المعلومات أيضا، إلى أن هذه الضغوط تُنسَب إلى شخصيات سياسية بارزة ذات نفوذ محلي وسياسي وهي معروفة بالإسم وعلاقتها بكارتيل النفط والغاز في لبنان.
الى ذلك، لا يُستبعد البعد الأمني عن هذه القضية، إذ تحذّر "غايا" من أنّ موقع الخزّانات قد يشكّل هدفاً سهلاً أمام أي خرق أمني أو عدوان إسرائيلي، خاصةً إذا ما استُعيد شريط كارثة الرابع من آب 2020. ورغم اختلاف طبيعة المواد بين نيترات الأمونيوم والغاز المضغوط، إلّا أنّ المشكلة تبقى نفسها: تجاهل التحذيرات، وغياب إجراءات الحماية والردع الفعّال. وفي ظلّ التوترات اليومية والاعتداءات المتكررة على السيادة اللبنانية، لا شيء يمنع تكرار مأساة جديدة.
وتلفت الجمعية كذلك إلى أنّ المخاطر لا تقتصر على العنصر البشري أو العدوان الخارجي، إذ يمكن لأي هزّة أرضية قوية أو زلزال أن يتسبّب بكارثة لا تُحمد عقباها.
أمام هذه المعطيات، يقف لبنان مجدداً على مفترق خطير، بين واقع إهمال رسمي واضح وضغوط كارتلات اقتصادية سياسية لا تعبأ بمصالح المواطنين ولا بسلامتهم. إنّ مشروع خزانات الغاز في برج حمود -الدورة، ليس مجرد ملف صناعي أو بيئي، بل قضية وجودية تمسّ أمن العاصمة وسلامة سكانها ومستقبل أجيالها. فإذا كان الانفجار المحتمل يوازي أضعاف كارثة المرفأ، فإنّ الصمت المستمر يوازي المشاركة في صناعة الكارثة المقبلة. وحدها الإرادة السياسية الصادقة، مدعومة برقابة قضائية وإعلامية ومجتمعية فاعلة، يمكن أن توقف عدّاد الخطر قبل أن يحوّل لبنان إلى مسرح جديد للدمار.