خاص وردنا- لبنان على موعد مع أوراق المليون ليرة: بين ضرورة السيولة ومخاطر التضخم

في خطوة هي الأعلى من نوعها في تاريخ البلاد، أقرّ مجلس النواب اللبناني تعديلات على قانون النقد والتسليف، تسمح لمصرف لبنان (المصرف المركزي) بطباعة أوراق نقدية من فئات غير مسبوقة، تبلغ 500 ألف ليرة، ومليون ليرة، بل وحتى خمسة ملايين ليرة. هذا القرار الذي يأتي في قلب واحدة من أقسى الأزمات الاقتصادية العالمية، يضع الليرة اللبنانية على مفترق طرق، بين من يرون فيه حلًا تقنيًا لإشكالات الحياة اليومية، ومن يحذّرون من كونه اعترافًا نهائيًا بانهيار العملة الوطنية.

لم يعد مشهدًا نادرًا في لبنان، أن يحمل مواطن "كيسًا" من الأوراق النقدية من فئة المئة ألف ليرة لتسديد ثمن بضاعة بسيطة أو دفعة فاتورة. فبعد أن فقدت الليرة ما يزيد عن 98% من قيمتها منذ أواخر عام 2019، أصبحت الكتلة النقدية اللازمة للإنفاق اليومي عبئًا ماديًا. كلفة نقل الأموال وتخزينها وتأمينها ارتفعت بشكل جنوني، ما دفع الجهات الرسمية إلى البحث عن حل يخفف هذا العبء التشغيلي واليومي.

لماذا الآن؟ 

يوضح الخبير الاقتصادي أنطوان فرح لـ"وردنا"، أن الدافع الأساسي وراء هذا القرار هو نقدي بحت وليس اقتصادي، ويشرح ذلك بالقول إن الليرة اللبنانية، ومنذ ذروة الأزمة، فقدت وظيفتين أساسيتين لأي عملة:

-وسيلة ادخار: لم يعد أحد يدخر بالليرة بسبب الانهيار السريع والمستمر لقيمتها الشرائية.

-وسيلة إنفاق: مع تضخم الكتلة النقدية وارتفاع الأسعار، أصبحت المعاملات اليومية باستخدام الليرة مرهقة جسديًا وغير عملية، ما دفع الناس بشكل متزايد إلى تفضيل استخدام الدولار الأميركي حتى في أبسط المشتريات.

هنا تكمن الغاية المباشرة من إصدار الفئات الكبيرة، كما يراها فرح: "استعادة دور الليرة الجزئي كوسيلة إنفاق". فوجود أوراق نقدية كبيرة سيجعل التعامل بالليرة أسهل، خاصة إذا ما قورن بالدولار الذي كثيرًا ما يُرفض في الأسواق إذا كان فيه أي تمزق أو عيب بسيط. كما أن استبدال الليرة المتضررة سهل عبر مصرف لبنان مقارنة بالدولار.

سيناريوهات المستقبل: شطب أصفار أم استسلام للانهيار؟

يحاول القرار الإجابة على سؤال ملحّ: ماذا بعد؟ هنا، يقدم الخبير فرح رؤية ثاقبة، مستبعدًا أن تكون هذه الخطوة تمهيدًا لتغيير العملة بالكامل. ويستند في ذلك إلى منطق بسيط: "إذا كانت هناك نية لتغيير العملة، لما كلفنا أنفسنا طباعة عملة قديمة وفئات جديدة ومن ثم نغيرها". بدلاً من ذلك، يرى أن هذا القرار "قد يمهد لشطب الأصفار" من العملة في مرحلة لاحقة، وهي عملية تقنية شائعة في الدول التي تعاني من تضخم جامح.

لا يغفل الخبير فرح عن المخاوف المشروعة التي يثيرها هذا القرار، وأبرزها خطر التضخم الجامح. وهو يطمئن إلى أن السلطات النقدية تدرك هذا الخطر. ويوضح أن عملية إدخال الفئات الجديدة ستكون "تدريجية" ومدروسة، سواء من حيث إصدار كل فئة على حدة أو من حيث الكمية التي تضخ في السوق، بهدف "ضبط الكتلة النقدية" ومنع تأثيرها السلبي على سعر الصرف.

ويشير إلى أن الحكومة نفسها تتحاشى الإنفاق السخي من حسابها في المصرف المركزي (الحساب 36) لمنع تفاقم التضخم وانهيار سعر الصرف، لأن ذلك في النهاية "سينعكس عليها وعلى كل الناس بشكل سلبي".

قرار إصدار أوراق نقدية من فئة المليون ليرة هو أكثر من مجرد تغيير تقني، إنه مرآة تعكس عمق المأزق النقدي في لبنان. بينما يرى فيه البعض، مثل الخبير أنطوان فرح، خطوة عملية ضرورية لإنقاذ ما تبقى من وظائف الليرة في الحياة اليومية وتنظيم الكتلة النقدية، يرى فيه آخرون قارب نجاة وهمي في محيط من الأزمة الهيكلية.

النجاح الحقيقي لهذه الخطوة لن يقاس بحجم الأوراق الجديدة التي بين أيدي اللبنانيين، بل بقدرتها على أن تكون جزءاً من رحلة شاقة ومازالت طوحة نحو استعادة الثقة، وهي الرحلة التي لن تبدأ حقاً إلا بوضع خطة إنقاذ اقتصادي شاملة تعيد بناء النظام المالي وتطلق العنان للاقتصاد المنتج. فقط عندها، قد تبدأ الليرة باستعادة ليس فقط وظيفتها في الإنفاق، بل وحلم اللبنانيين بها كوسيلة ادخار مرة أخرى.

يقرأون الآن