لبنان

هل كان نصرالله وراء صفقة البيجر؟

هل كان نصرالله وراء صفقة البيجر؟

في 26 أيلول الماضي قال جواد نصر الله، نجل السيد حسن، في حديث لوكالة "رويترز" أجري معه عند ضريح والده خلال التحضير للاحتفال بذكرى اغتياله الأولى "إن تفجير إسرائيل أجهزة الاتصالات اللاسلكية، البيجر، التي كان يستخدمها أعضاء في "الحزب" فجّرت غضب والده". أضاف: "باعتقادي الشخصي، لو فقد ولدًا من أولاده مقابل أن يَسلَم كلّ من أصيب لكان أهون على قلبه... كان زعلان غضبان عتبان، حتى كان في عتب كبير على البعض أنّو كيف بيصير هيك يعني، هو يعتبر نفسه مؤتمنًا على هذا الدمّ" وفق ما ورد في "نداء الوطن".

هل كان غضب نصرالله ناتجًا عن شعور بالمسؤولية بعد اتخاذ القرار باستقدام هذه الأجهزة؟ وهل كان لديه شعور بأنّ إسرائيل نجحت في اختراق "الحزب" وتفوّقت عليه بهذه الضربة الكبرى، كما وصفها هو، وبأنّ نتائج الحرب لن تكون في مصلحته؟

يروي رئيس وحدة الارتباط والتنسيق في "حزب الله"، الحاج وفيق صفا، في حديث إلى قناة "الميادين" في 17 شباط 2025، قبل أيام من تشييع الأمينين العامّين للحزب، السيّدَين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، اللذين اغتالتهما إسرائيل تباعًا في 27 أيلول و3 تشرين الثاني 2024، أنّه لم يتصوّر في أي وقت أنّه وإخوانه في "الحزب" سيجلسون ويتحدّثون عن السيد نصرالله لأنّهم ما كانوا يتصورون أنّه يمكن أن تغتاله إسرائيل. وكشف أن آخر اتصال بينه وبين نصرالله كان بمبادرة من نصرالله. "المرة الوحيدة التي لم أجرؤ على الاتصال به كانت يوم تفجيرات البيجر. كنت عارف الحالة النفسية اللي هو فيها. هو رجل شجاع ومقدام بكل معنى الكلمة. ولكن عندما يتعلّق الأمر بالمقاومة، أو بالمقاومين أو بالمجاهدين، هي آخر الدنيا عندو. هو اعتبر أنّ الذين فقدوا أعينهم أو أطراف أصابعهم هذا مؤلم جدًا. ولكن من تواضعه وسماحته ولطافته في تلك الليلة، في آخر الليل، اتصل ليطمئنّ إلى ابني لأنّ ابني أصيب بعينيه ويديه. هذه كانت آخر مكالمة لها علاقة بالموضوع الشخصي. قبل استشهاده بيومين كان آخر اتصال لأنّنا كنا ننقل له رسالة لها علاقة بالوضع. سبحان الله قال "سأعطيك جوابًا. انتظر منّي جوابًا". وما زلت يا سيد أنتظر هذا الجواب"...

بين وفيق صفا والسيّد جواد

يلتقي صفا مع جواد نصرالله في وصف حالة الغضب التي عاشها نصرالله بعد تفجيرات البيجر. ولكن صفا لم يصل إلى ما قاله جواد عن أنّه "كان زعلان غضبان عتبان، حتى كان في عتب كبير على البعض أنّو كيف بيصير هيك يعني، هو يعتبر نفسه مؤتمنًا على هذا الدم".

كيف بيصير هيك؟ هذا هو السؤال الذي لم يقدم بعد "حزب الله" أي إجابة عليه. الشيخ نعيم قاسم أمين عام "الحزب" الحالي تحدث في لقاء تلفزيوني عن مسألة البيجر وأشار إلى وجود خرق تعرض له "الحزب" وإلى أن التحقيقات مستمرة ولكن من دون تحديد أين كان هذا الخرق.

السيد نصرالله في كلمته الأخيرة في 19 أيلول 2024، بعد يومين على تفجيرات البيجر ويوم على تفجير أجهزة اللاسلكي، تحدّث عمّا سمّاه الضربة الكبرى التي تلقّاها "الحزب" ولكنّه في الوقت نفسه أكّد الانتصار في الحرب، في حسابات خاطئة وغير متناسبة مع التطورات على الأرض، حتى أنّه لم يحسب حسابًا لاحتمال أن يكون هو هدفًا للاغتيال.

تعرّضنا لضربة كبيرة

قال نصرالله: "أما ما حصل، كيف حصل وما حصل، نحن شكّلنا لجان تحقيق داخلية متعدّدة فنية وتقنية وأمنية وندرس كل السيناريوات والاحتمالات والفرضيات في موضوع التفجيرات، وصلنا إلى نتيجة شبه قطعية ولكنّنا ما زلنا نحتاج إلى بعض الوقت، لكنّ مجمل هذا الملف هو قيد التحقيق والمتابعة الدقيقة سواءً من الشركة التي باعت إلى التصنيع إلى النقل إلى الوصول إلى لبنان إلى الإجراءات هنا في لبنان إلى التوزيع من المنتج إلى المستهلك إلى لحظة التفجير، هذا كلّه سنصل فيه خلال وقت قصير إن شاء الله إلى نتائج واضحة ويقينية ويُبنى حينئذٍ على الشيء مقتضاه، لن أدخل الآن ولن أعجّل وأدخل الآن في هذا الجانب الفني والتقني، لأنّه يوجد تحليلات واحتمالات ونظريات، فلننتظر قليلًا لنصل إلى ما هو يقيني وأكيد، لكن لا شكّ نحن ناس واقعيون ولا نُكابر، لا شكّ أننا تعرضنا لضربة كبيرة أمنيًا وإنسانيًا وغير مسبوقة في تاريخ المقاومة في لبنان، بالحدّ الأدنى غير مسبوقة في تاريخ لبنان... نعم نحن تلقّينا ضربة كبيرة وقاسية لكن هذه حال الحرب أيضًا وحال الصراع، ونحن نعرف أنّ عدوّنا لديه تفوّق ولم نقل غير ذلك في يوم من الأيام، تفوّق على المستوى التكنولوجي لأنّه هنا لا يوجد فقط الإسرائيلي، الأميركي معه والغرب معه والنيتو معه وكل القوى التي تملك أحدث تكنولوجيا...".

وأنهى نصرالله كلمته قائلًا: "لا شكّ أنّ العدوان الذي حصل هو عدوان كبير غير مسبوق وسيواجَه بحساب عسير وقصاص عادل من حيث ‏يحتسِبون ومن حيث لا يحتسِبون، ولكن لأنّ هذه المعركة الجديدة كانت في أوجه ‏خفيّة دعونا اليوم أن نغيّر الأسلوب، فلا أتحدّث لا عن وقت ولا عن شكل ولا عن ‏مكان ولا عن زمان، أتركوا الموضوع والخبر هو ما ترون لا ما تسمعون، هذا ‏حساب سيأتي، طبيعته وحجمه وكيف وأين؟ هذا بالتأكيد ما سنحتفظ به لأنفسنا وفي ‏أضيق دائرة حتى في أنفسنا، لأنّنا هنا في جزء من المعركة الأكثر دقة وحساسية ‏والأكثر عمقًا وأهمية".

هواجس الخيانة والدائرة الضيقة

بعد يوم على هذا الكلام كانت إسرائيل تغتال قائد قوات الرضوان ابراهيم عقيل مع أبرز قادة الوحدات خلال اجتماع في مقرهم في الضاحية الجنوبية. وبعد ثمانية أيام كانت تغتال نصرالله في حارة حريك قبل أن يكتشف أيّّ معلومة خاصة عن طبيعة الاختراق الإسرائيلي. لم تترك إسرائيل أيّ فرصة لـ "الحزب" حتى يلتقط أنفاسه ويعرف ما يجري معه ومن حوله. كان يتعرّض للضربة تلو الأخرى وبات عاجزًا عن الردّ. حتى قيل إنّ اجتماع عقيل وقادة الرضوان كان بطلب من نصرالله للتحضير لعملية عسكرية كبيرة للردّ على تفجيرات البيجر واستعادة شيء من المعنويات التي انهارت بسبب هذه الضربة، وبقي السؤال كيف علمت إسرائيل بمكان الاجتماع وبتوقيته وبمن يحضره؟

كانت الإجراءات الأمنية مشددة حول نصر الله منذ بداية الحرب التي أعلنها في 8 تشرين الأول 2023. ابنه جواد مثلًا، كان قد نزح مع النازحين، ولم ير والده منذ ثلاثة أشهر. ابنه الآخر محمد مهدي لم يره منذ ستة اشهر. وفيق صفا قال إن آخر لقاء معه كان قبل شهرين. نائبه، الشيخ نعيم قاسم، قال إنّه لم يتّصل به إلّا ليطلب منه أن يؤمّ المصلين في تشييع ابراهيم عقيل. عندما قال في 19 أيلول "هذا بالتأكيد ما سنحتفظ به لأنفسنا وفي ‏أضيق دائرة حتى في أنفسنا..."، كان يعي أنّ "الحزب" عاجز عن اكتشاف مكان الخرق الكبير الذي تعرّض له وأنّه باتت لديه هواجس من خيانة في الدوائر القيادية العليا في "الحزب".

هيدا الخليوي هو العميل؟

لم يكن نصرالله بعيدًا عن خيار استقدام أجهزة البيجر. وربما هذا ما يفسّر غضبه. منذ بداية الحرب وضعت عمليات الاغتيال التي بدأت تطول قياديين في "الحزب"، نصرالله في موقف صعب لم يكن معه قادرًا على اكتشاف أسباب التفوّق الإسرائيلي. كان هناك تشتّت وضياع في تحديد المسؤولية. انتقلت الترجيحات من دون أسباب مُقنِعة من الكاميرات الموصولة على الإنترنت في المنازل والشوارع إلى أجهزة الكومبيوتر وصولًا إلى الهواتف الخليوية خصوصًا بعد اغتيال القيادي وسام الطويل في 8 كانون الثاني في منطقة صور، بعد أسبوع على اغتيال القيادي في حركة حماس، صالح العاروري في الضاحية الجنوبية.

في 13 شباط 2024 في يوم الجريح حكى نصرالله عن الاختراقات والجواسيس. قال: "هيدا الخليوي اللي بإيدنا، بإيدكم، أنا ما في بإيدي خليوي. هيدا الخليوي اللي بإيدكم يا إخوان ويا أخوات، هذا جهاز تنصت. كتار بيجي بيقلك لما الإسرائيلي بيطلع بيضرب هدف، العملاء والعملاء ومحيط العملاء وفتشوا عن العملاء. الإسرائيلي مش محتاج للعملاء أصلًا. واللّهِ مش محتاج لعملاء. بحلفلكم يمين. استغنى عن العملاء من زمان. هلّق في بعض الأماكن يحتاج إلى عملاء. بسّ لهي الشغلات ما عاد يحتاج إلى عملاء. ما هو جهاز التنصت بجيبتك، وبجيبة إبنك وبنتك وزوجتك. وبالبيت وبالشغل وبالسيارة وبالطريق، هيدا الخليوي بيسمع. بيسمعك شو عم تحكي وبيسجلّك كلّ شي حاطّو بقلب الخليوي حكي ورسائل وصور. وبيحدِّدلك مكانك بالضبط بأي أوضة وإذا راكب بالسيارة قاعد قدام أو ورا وعاليمين أو عالشمال. بدّو أكثر من هيك الإسرائيلي؟ وأنا عم قدّملو ياه. لذلك نحنا طلبنا من إخواننا بالقرى الحدودية. بالقرى الأمامية. إذا فينا بكل الجنوب بهالمرحلة خصوصًا المقاتلين المقاومين هني وعائلاتهم يستغنوا عن الخليوي. عطّلو يا خيي. ادفنو. حطّو بصندوق حديد وقفِّل عليه. ما عليه شي. جمعة جمعتين. شهر. اللهُ أعلم هالقصة أدِّي رح بتطول. من أجل سلامة وأمن وحفظ دماء وكرامات الناس. هيدا العميل. بتقلي وين العميل؟ بقلك هيدا العميل. الخليوي يللي بإيدك وبإيد زوجتك وبإيد ولادك. هيدا هوي العميل، هو عميل قاتل. مش عميل من قريبو. عميل قاتل يقدّم معلومات محددة ودقيقة...".

في قراءة لهذا الكلام يظهر التخبّط الذي كان يعيشه "الحزب" من القيادة إلى القاعدة. ويظهر الجدل الداخلي الذي لم يكن يخرج إلى العلن، وتظهر الأزمة التي كان يعيشها نصرالله نفسه والتي حملته على قول هذا الكلام. حتى أنّه لم تكن لديه توقّعات للمدى الزمني الذي يمكن أن تبلغه هذه الحرب نتيجة سوء التقدير للّحظة التي دخلها فيها. ولكن ما كان هذا الكلام قادرًا على الحدّ من عمليات الاختراق. كثيرون اعتبروا أنّه كان نقطة البداية لاتخاذ القرار باستقدام أجهزة البيجر لتحلّ محل الهواتف الخليوية، ولكن المصائب لم تتوقّف وكانت أعظم بحسب "نداء الوطن".

يقرأون الآن