منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، ظلّ التفاوض اللبناني - الإسرائيلي شبه محصور في الإطار العسكري أو التقني. فمن اتفاقية الهدنة عام 1949 إلى ترسيم الحدود البحرية عام 2022، حافظ لبنان على موقف ثابت يرفض أي حوار سياسي مباشر مع إسرائيل، مكتفياً بتعاطٍ محدود عبر وسطاء دوليين.
ومع كل محطة تاريخية، تكرّس هذا النمط من التواصل المحدود الذي يعبّر عن توازن دقيق بين الرفض السياسي والحاجة إلى معالجة قضايا ميدانية ملحّة.
لكنّ التطورات الإقليمية الأخيرة، وتبدّل موازين القوى، إضافة إلى الضغوط الدولية المتزايدة لإرساء «استقرار دائم» على كل حدود إسرائيل، وضمناً الحدود اللبنانية، تعيد طرح ملف المفاوضات إلى الواجهة. فالدفع الحاصل اليوم، وخصوصاً عبر وساطات أميركية، يوحي بأن لبنان قد يجد نفسه أمام الاختبار الأصعب.
ومرت العلاقات اللبنانية - الإسرائيلية، التي اتسمت منذ عام 1948 بالعداء والقطيعة التامة، بأكثر من محطة تاريخية اضطُر خلالها الطرفان لصياغة تفاهمات بـ«الواسطة» لإنهاء نزاعات مسلحة وحروب متعددة منذ تسعينات القرن الماضي.
اتفاقية الهدنة
ونشب أول اقتتال بين لبنان وإسرائيل عام 1948، مع إعلان قيام دولة إسرائيل حين شارك الجيش اللبناني إلى جانب الجيوش العربية بالحرب التي انتهت باحتلال إسرائيل بلدات داخل العمق اللبناني. ولم تنسحب تل أبيب من الأراضي اللبنانية المحتلة، إلا بعد توقيع «اتفاقية الهدنة» عام 1949 في بلدة الناقورة اللبنانية.
ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن المفاوضات التي سبقت الاتفاقية جرت برعاية الأمم المتحدة تطبيقاً لقرار مجلس الأمن الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) 1948، ونصّ على عدم اللجوء إلى القوّة العسكرية في تسوية القضية الفلسطينية.
ووقّع الاتفاق في حضور المندوب الشخصي لوسيط الأمم المتحدة لفلسطين ورئيس هيئة مراقبة الهدنة التابع للأمم المتحدة، موضحاً أن هذه الاتفاقية كانت نتاج أول مفاوضات ذات طابع عسكري بين الطرفين، وإن كان قد شارك فيها عن الطرف اللبناني مستشاراً دبلوماسياً وقانونياً.
ويلفت غانم إلى أنها «أدت إلى ترتيبات أمنية على جانبي الحدود وتوزيع القوى بالتساوي. وقد جرى بذلك الوقت تثبيت الحدود وكانت هناك لجنة عسكرية من الأمم المتحدة تشرف على تنفيذ الاتفاق». ويضيف: «جرى تثبيت الحدود كما نصّت عليه اتفاقية بوليه - نيوكمب لعام 1923، ورغم الاعتداءات الإسرائيلية الكثيرة بين عامَي 1968 و1982 فإنّ لبنان الرّسمي ظلّ متمسّكاً باتفاقية الهدنة».
الاجتياح الإسرائيلي
ويوضح غانم أن «لبنان لم يشارك بالحرب العربية - الإسرائيلية التي اندلعت عام 1967 بل أكد تمسكه باتفاق الهدنة، وبالوقت نفسه أعلن تضامنه مع الإخوة العرب. وبعد ذلك، ومع انتهاء تلك الحرب، بدأت إسرائيل بقضم أراض لبنانية والتمدد باتجاه مزارع شبعا، وعندها أيضاً انطلقت العمليات الفدائية من لبنان عام 1968».
ومع توقيع لبنان اتفاقية القاهرة مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1969، التي لحظت السماح للمقاومة الفلسطينية بالعمل العسكري ضد إسرائيل من مناطق محددة في الجنوب اللبناني، اتهمت إسرائيل لبنان بخرق اتفاق الهدنة ما أدى لتفجير الوضع.
«اتفاق 17 أيار»
واجتاحت إسرائيل لبنان عام 1978، فيما عُرف باسم «عملية الليطاني»، حيث فرضت سيطرتها على الضفة الجنوبية لنهر الليطاني، وصدر قرار عن مجلس الأمن حمل الرقم 425، يطالب تل أبيب بالانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة. ثم في عام 1982، نفذت اجتياحاً واسعاً ووصلت إلى بيروت، ولم تنسحب منها إلا بالتزامن مع مفاوضات أفضت إلى توقيع اتفاق أمني في 17 مايو 1983، وانبثقت عنه لجان بحث اقتصادية وسياسية وأمنية، وكانت المفاوضات مباشرة برعاية وتسهيل أميركيين.
ويشير غانم في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «المفاوضات التي سبقت هذا الاتفاق، كانت دبلوماسية - عسكرية شارك فيها سفراء من الطرفين، وانتهت إلى اتفاق عسكري - أمني له طابع دبلوماسي تحت عنوان إنهاء حالة الحرب. لكن هذا الاتفاق أثار معارضة شديدة في لبنان، ولم يُنفّذ قط، وألغاه مجلس النواب اللبناني، كما ألغى اتفاق القاهرة (لعام 1969 الذي أتاح المقاومة الفلسطينية المسلحة انطلاقاً من لبنان) عام 1987».
مفاوضات 1985
وفي عام 1985، جرت مفاوضات عسكرية بين لبنان وإسرائيل لترتيب الانسحاب الإسرائيلي، وقد انسحب الجيش الإسرائيلي من بيروت والجبل عام 1983، ومن صيدا عام 1985. وهنا يقول غانم: «لذلك فإنّ مفاوضات 1985 هدفت إلى استكمال الانسحاب من جزين والمنطقة وباقي الجنوب والعودة إلى اتفاقية الهدنة، علماً بأن إسرائيل انسحبت من جزين عام 1999»، فيما انسحبت من سائر الأراضي اللبنانية المحتلة في عام 2000.
ويشير غانم إلى أنه «في عام 2000 وبعد انسحاب إسرائيل من باقي الشريط الحدودي على خلفية عمليات المقاومة، جرى اتفاق عبر وساطة الأمم المتحدة والسفير تيري رود لارسن على الخط الأزرق، وهو ليس خطاً نهائياً للحدود، وبقي هناك خلاف على 13 نقطة كما على مزارع شبعا وقرية الغجر» التي بقيت إسرائيل تحتل شطراً منها.
مفاوضات ترسيم الحدود البحرية
وبعد حرب 2006 أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 1701 الذي أنهى الحرب. ولم يحصل خلالها أي تفاوض مباشر أو غير مباشر بين إسرائيل ولبنان وصولاً إلى عام 2022 حين حصلت مفاوضات غير مباشرة برعاية أميركية وبوساطة المبعوث الأميركي آموس هوكستين على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.
اتفاق وقف النار
كذلك قاد هوكستين مفاوضات غير مباشرة أدت إلى وقف الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2024، من خلال التفاهم على ما عُرف باتفاق «وقف النار» في نوفمبر من العام نفسه.
وبعد تنصل إسرائيل من هذا الاتفاق ومواصلتها خروقاتها وعملياتها العسكرية واحتلالها لأراض لبنانية، جرى الحديث عن وجوب خوض مسار جديد من التفاوض الذي تفضل واشنطن أن يكون مباشراً ويؤدي إلى هدنة جديدة تطمح إلى أن تتحول إلى تطبيع للعلاقات بين البلدين. لكن لبنان الرسمي لا يزال يرفض بشكل قاطع أي مفاوضات مباشرة ولا يمانع مفاوضات غير مباشرة تؤدي إلى تثبيت وقف إطلاق النار وتلزم إسرائيل بتطبيق التزاماتها.


