منذ إسقاط نظام بشار الاسد، ومعه حكم البعث الذي استمرّ لنصف قرن من الزمن، تتجه الأنظار الى العلاقة السورية اللبنانية بعد مرحلة هيمنة طويلة، عُرفت "بالوصاية السورية على لبنان" لا بل اعتبرها كثيرون شكل من أشكال الاحتلال اذ منذ دخول القوات السورية "الردع" عام 1976 خلال الحرب الاهلية، وصولا الى الانسحاب عام 2005 اثر الثورة الشعبية العارمة عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، اعتبر نظام الاسد، لبنان مسرحا لقضاياه وصراعاته الاقليمية والدولية، وساحة خلفية له، ولم يعترف بالدولة اللبنانية، فتدخل في الشاردة والواردة لا بل كان يحدد مفاصل الحياة السياسية اللبنانية، ويلعب الدور الاساس في انتخاب رئيس الجمهورية، واختيار رئيس الحكومة والوزراء وتوزيع الحقائب، والانتخابات النيابية، وامتدت هذه الهيمنة الى المراكز الأمنية والتعيينات الادارية والقضائية وفق ما يتناسب مع مصالحه السياسية، وتعزيز نفوذه، مستغلا هشاشة الوضع الداخلي والانقسام بين اللبنانيين.
بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005، دخلت العلاقة بين بيروت ودمشق في مرحلة من القطيعة أو التواصل السري خصوصا ان الذاكرة اللبنانية مثقلة بالأحداث المؤلمة، والتدخلات السياسية والأمنية. لكن، المشهد انقلب عام 2024، وفرض سقوط النظام السابق واقعا جديدا، يستوجب مقاربة مغايرة في العلاقة بين دولتين سياديتين جارتين. ولا بد من مراجعة شاملة لتاريخ طويل من العلاقات التي شابها الكثير من الشوائب بين بلدين يسعيان اليوم الى تجاوز الصعوبات والتحديات الكبرى، وإيجاد المخارج اللائقة للملفات الشائكة، علهما يبنيان علاقة ندية قائمة على الثقة، تضمن الازدهار والاستقرار لكلا البلدين.
زيارة الشيباني الى لبنان محطة هامة
وفي هذا السياق، شكلت زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني الى لبنان محطة هامة في مسار العلاقة بين لبنان وسوريا، بعد عقود من التوتر والخلل،وفتحت صفحة جديدة نحو اعادة الامور الى طبيعتها في مختلف الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية والمالية. كما ان زيارة رئيس الحكومة اللبناني نواف سلام برفقة وفد وزاري الى سوريا، اعتبرت خطوة جيدة وبناءة لاسيما لجهة البحث في مصير المفقودين والمعتقلين اللبنانيين في سوريا، بالإضافة إلى مطالبة السلطات السورية بالمساعدة في ملفات قضائية عدة، وتسليم المطلوبين للعدالة في لبنان، أبرزها تفجير مسجدي التقوى والسلام، والمدان باغتيال الرئيس بشير الجميل والجرائم التي يُتهم بها نظام الأسد.وأبدى الجانب السوري استعداده لوجستياً للمساعدة في عودة اللاجئين لدى عرض الجانب اللبناني خطته لإعادة ٤٠٠ ألف لاجئ. وهنا لا بد من الاشارة الى ان سلام التقى بالشرع منذ يومين في مستهل "منتدى الدوحة" اذ تم التركيز على سبل تعزيز التعاون وتطوير العلاقات الثنائية بين لبنان وسوريا.
وضمن هذا المسار، جاءت زيارة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان الى دمشق في مشهد حمل رسالة دينية وسياسية بعد عقدين من القطيعة اثر اغتيال الحريري.
واذا كانت زيارة الشيباني الى لبنان بمثابة ثمرة اللقاء بين الرئيسين اللبناني جوزيف عون والسوري أحمد الشرع على هامش أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للامم المتحدة، كان لافتا أن استبقتها الادارة السورية بإبلاغ وزارة الخارجية اللبنانية قرار تعليق عمل "المجلس الاعلى اللبناني السوري" سيئ الصيت، وحصر كل أنواع المراسلات بين البلدين عبر الجهات الرسمية والديبلوماسية. كل ذلك، يؤشر الى ان هناك توجها لعودة العلاقات بين لبنان وسوريا الى طبيعتها في عهد الرئيس الشرع الذي أكد ان سوريا تريد علاقة من دولة الى دولة مبنية على الاعتراف بالسيادة. وأقرّ بأن الاستراتيجيات في الماضي كانت "خطأ كبيرا"، وهناك رغبة في تجاوز الارث الماضي نحو تعاون يخدم مصلحة البلدين. وتمنى الشرع على الشعب اللبناني ان يصرف عن نفسه ذهنية العلاقة السورية السابقة في لبنان وما تبعها من علاقات سلبية، معتبرا ان هناك "فرصة لبناء علاقة إيجابية". كما لفت الى ان لبنان عانى من سياسات الأسدين،والبلدين بحاجة الى كتابة تاريخ جديد، مشيرا الى انه تنازل عن الجراح التي سببها حزب الله لسوريا.
ملفات متشابكة وشائكة بين البلدين
في ظل هذه المستجدات، وأعقاب التغيرات السياسية في سوريا بعد سقوط نظام الاسد، لا بد من معالجة الملفات المتشابكة والشائكة بين البلدين الجارين، لتُفتح بعدها صفحة جديدة بيضاء في العلاقات الثنائية بين بيروت ودمشق، ولعل أبرزها: ملف اللاجئين السوريين الذي يعتبر من أهم القضايا العالقة اذ يؤكد نائب رئيس الحكومة طارق متري ان حل هذا الملف لا يمكن أن يتحقق دون التنسيق المباشر مع دمشق. أما ملف الموقوفين السوريين في لبنان، يعدّ أحد الملفات التي تطالب سوريا بمعالجتها بشكل فوري ليكون مدخلا اساسيا لاعادة بناء الثقة بين البلدين الا انه لم تتبلور آلية واضحة لمعالجته. ومن بين أكثر الملفات تعقيدا، من النواحي السياسية والقانونية والاقتصادية، ملف ترسيم الحدود البحرية والبرية بين لبنان وسوريا اذ في البحر هناك تداخلات حدودية تؤثر على البلوكين 1و 2 في المنطقة الاقتصادية الخالصة. اما في البر، فهناك العديد من المناطق المتداخلة او المتنازع عليها بما فيها مزارع شبعا، وتلعب العديد من الدول الاقليمية والدولية دورا داعما لمسار التفاهمات الثنائية بين البلدين في هذا الاطار، وفي طليعتها المملكة العربية السعودية عبر لجنة ثلاثية تضم وزيري الدفاع في كل من لبنان وسوريا خصوصا لناحية منع عمليات التهريب عبر المعابر غير الشرعية بالاضافة الى الدور القطري في الدعم السياسي واللوجستي الى جانب الدور الفرنسي والبريطاني بحيث ان بريطانيا تلعب دورا تقنيا في ضبط الحدود من خلال الاشراف على أبراج المراقبة عند الحدود اللبنانية- السورية. اما الملف الاكثر انسانية وألما، وسيبقى جرحا نازفا في قلب الوطن كما في قلب الاهالي هو ملف المفقودين والمخفيين قسرًا بحيث انه على مدى أكثر من أربعين عاما حاولت الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا، معرفة مصير المخفيين والمفقودين في السجون السورية دون أي جدوى. واليوم، بعد سقوط نظام الاسد، وفتح السجون في سوريا، أصبح الاهالي شبه متأكدين ان مفقوديهم ليسوا على قيد الحياة، ويطالبون بأبسط حقوقهم في معرفة مصير هؤلاء أو الحصول على رفاتهم لدفنهم بشكل لائق. وفي هذا الاطار، تم تأليف لجنتين مختصتين لتحديد مصير ما يقرب من ألفي سجين سوري محتجزين في السجون اللبنانية، وتحديد مكان المواطنين اللبنانيين المفقودين في سوريا منذ سنوات. اضافة الى الملفات الاقتصادية والمالية اذ ان السوريين يطالبون باستعادة ودائعهم المحتجزة في لبنان.
تطبيع العلاقة يتطلب النية والارادة والمبادرة
وبالتالي، هناك حاجة لترتيب العلاقة بين لبنان وسوريا، والتحدي يكمن في قدرة الحكومتين على تحويل الاتفاقيات او النقاشات والتفاهمات الى خطوات تنفيذية، والانتقال من موقع المهيمن الى موقع الشريك، واعادة تعريف العلاقة بوضوح ومن فوق الطاولة اذ بدأت البوادر الايجابية تتشكل من خلال الاجتماعات الأمنية واللقاءات الوزارية التي تترجم في تشكيل لجان مشتركة تعالج الملفات الهامة والحساسة. ليبقى التساؤل: هل سيتمكن لبنان وسوريا من تخطي التحديات، وتذليل العقبات في عهد الشرع؟ وهل يمكن إعادة تطبيع العلاقة بين البلدين أو ان إرث "الأسدين" سيبقى حاضرا في الذاكرة اللبنانية؟
رئيس حزب "حركة التغيير" إيلي محفوض اعتبر في حديث لموقع "وردنا" انه إذا وُجدت النية والارادة عند المسؤولين اللبنانيين، يمكن تخطي الصعوبات والعقبات. المطلوب مبادرة. والسؤال الذي يُطرح: هل هناك من يبادر اليوم؟ أنا لا أرى ان هناك مبادرات جدية طالما ان "المجلس الأعلى السوري اللبناني"، والاتفاقيات و"معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق"، وقضية المعتقلين في السجون السورية خلال نظام الاسد، وملف الحدود البري والبحري والترسيم وضياع هوية مزارع شبعا، وعودة اللاجئين، كلها ملفات لا تحظى بالجدية المطلوبة في التعاطي. ثم لماذا لا نسأل عن فلول نظام الاسد وأيتامه وعملائه في لبنان الذين ساهموا في احتلال لبنان من قبل عائلة الاسد؟ ما مصير هؤلاء بعد سقوط النظام السابق؟ اذا لم تتم محاسبتهم أو على الاقل نُشرت أسماءهم، عبثا المحاولة.
ورأى محفوض ان القضايا التي تُعالج ضمن اللجان يعني انها ماتت. القضايا العالقة لا تتطلب تشكيل لجان انما تنسيقا متبادلا بين الجموريتين اللبنانية والسورية، بين وزارات الخارجية والداخلية والدفاع في البلدين. الدولة اللبنانية عليها السعي لأن تكون العلاقة بين البلدين طبيعية، وليس هناك ما يُسمى علاقات مميزة بين لبنان وأي دولة أخرى. نحن نريد علاقات طبيعية ككل دول العالم. على الدولة اللبنانية أن ترسم خطة في هذا الاطار، ولتبادر. واذا اعترض الجانب السوري، يكون حينها لكل حادث حديث. ما الذي يمنع الدولة اللبنانية اليوم من فتح الحدود للاجئين السوريين، والبداية تكون مع من لا يملكون الاوراق الثبوتية؟ على الدولة اللبنانية ان تبادر أقله في هذا الملف ليكون بداية لمعالجة الملفات الاخرى.


