لا شكّ أن من أبسط قواعد الضيافة أن يحترم الضيف المكان الذي يحتضنه، وأن يقدّر البلد الذي فتح له أبوابه واعتبره واحداً من أبنائه. لكن ما شهدته الشوارع اللبنانية يوم أمس، خلال ما وُصف باحتفالات بعض السوريين بذكرى “تحرير سوريا” أو سقوط نظام الأسد، ترك انطباعاً صادماً لدى كثير من اللبنانيين.
فالمشاهد التي ظهرت، من مسيرات عشوائية وفوضى وإشكالات متنقلة، أعطت انطباعاً واضحاً بأن الضيوف لم يحترموا خصوصية البلد الذي آواهم واتسع لهم، خصوصاً في لحظة حساسة يقف فيها لبنان على فوهة انفجار سياسي وأمني لا يحتمل أي شرارة إضافية.
هنا بيروت، وليست دمشق، وما حصل بدا غريباً ومقلقاً، وقد يحمل انعكاسات خطِرة على الوضع الأمني الهشّ في البلاد.
من بيروت إلى طرابلس… مسيرات سورية تربك الأمن اللبناني
شهدت عدة مناطق في لبنان أمس الاثنين احتفالات نظّمها سوريون بمناسبة مرور عام على سقوط نظام الأسد. تركزت هذه التحركات في خلدة وعرمون والجية وطرابلس وعكار، إضافة إلى كورنيش المزرعة وطريق المطار، وتخلّلها مواكب سيارات ودراجات نارية ورفع أعلام سورية.
وعلى الرغم من أن المشهد كان يُفترض أن يبقى ضمن الأطر الاحتفالية، إلّا أن سلسلة من الإشكالات اندلعت في عدد من المناطق، خصوصاً في صيدا وطرابلس، حيث وقع تضارب بين مجموعات شبابية، تبادُل للمفرقعات، وتكسير سيارات، ما استدعى تدخّل الجيش اللبناني لضبط الوضع. وقد أسفرت هذه الإشكالات عن عدد غير قليل من الإصابات، وسط حالة عامة من الفوضى.
مكوّنات الفتنة جاهزة؟
المشهد الموازي الذي ظهر أمس كان أكثر خطورة من مجرد احتفال. فمن جهة، مجموعات من السوريين في الشوارع تحاول استفزاز “جماعة الحزب”، ومن جهة أخرى شبّان في الضاحية الجنوبية يهتفون لبشار الأسد بهدف معاكس، الأمر الذي عكَس انقساماً خطيراً وأظهر أن عقلية الاستفزاز المتبادل ما زالت حيّة لدى الطرفين.
هذا الواقع أكد للبنانيين جميعاً أن لا أمل في تغيير هذه الذهنية المتشنّجة، وأن الدولة اللبنانية باتت أمام ملف لا يمكن تأجيله: معالجة وضع السوريين واتجاهها نحو إعادتهم إلى وطنهم الذي بات يُوصف بأنه “آمن”، وفق ما يردده البعض. فالمشهد السوري – اللبناني أمس لم يكن سوى مرآة لانقسامات داخلية عميقة ولعجز الدولة المستمر عن فرض سلطة واحدة وخيارات وطنية واضحة.
ويؤكد الصحافي المتخصص بالشؤون القضائية يوسف دياب لـ"وردنا" أن هذه التجمعات تُحمّل الأجهزة الأمنية والعسكرية أعباء إضافية وتثير مخاوف حقيقية من الانزلاق نحو فتنة داخلية أو حرب أهلية، خصوصاً أن عوامل هذه الحرب لا تزال قائمة حتى اليوم. فحتى وإن كانت القوى الدولية لم تعد مهتمة بتغذية هذا النوع من الصراعات، إلا أن الأرضية اللبنانية نفسها ما زالت خصبة لأي اشتباك، والدليل أن مجرد طرح مسألة تسليم السلاح إلى الدولة كفيل بإشعال الأجواء من جديد.
لذلك، أي احتكاك بسيط بين شارعين قادر أن يتطور إلى مواجهة بين طرفين، ومع توسّعها مناطقياً يصبح احتواؤها شبه مستحيل.
ومع ذلك، يشير دياب إلى أن الخوف الفعلي من توسّع هذه الاحتكاكات غير كبير في الوقت الحالي، لأنها غالباً ما تنتهي بانتهاء المناسبة نفسها، لكن الأمر يبقى بحاجة إلى وعي أكبر وإدراك لحساسية الوضع اللبناني الذي لا يحتمل أي فتنة داخلية مهما كانت صغيرة.
هذه التحركات كشفت عمق الانقسام السياسي والاجتماعي في البلاد، فهي في جوهرها نتيجة لهذا الانقسام، وفي الوقت نفسه تغذّيه. وهنا تبرز الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى دولة تضع سياسة واحدة وواضحة لكل الشعب اللبناني، وتحدد خياراتها بعيداً عن المصالح الحزبية والطائفية الضيقة.فالأجهزة الأمنية، رغم قدرتها على التدخل السريع واحتواء التوترات، تعمل ضمن قدرات محدودة.
الجيش اللبناني منهك بمهامه الواسعة: من جنوب لبنان، إلى الليطاني، إلى ضبط الحدود الشمالية، مروراً بملاحقة الجرائم الكبرى وملف المخدرات، ما يرهق المؤسسة العسكرية إلى أقصى الحدود. وعلى الرغم من وجود إرادة واضحة لدى الجيش لمنع أي انفجار أمني، إلا أن حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقه كبير جداً.
من هنا، يصبح دور الدولة اللبنانية أساسياً في التحرك الفوري لمعالجة هذا الملف قبل أن يدفع اللبنانيون كلهم ثمن تأجيله.
والمفارقة التي تثير غضب كثيرين تبقى في السؤال الجوهري: إذا كانت سوريا بالنسبة لهؤلاء “آمنة” إلى درجة الاحتفال بتحريرها… فلماذا تُقام هذه الاحتفالات على الأراضي اللبنانية وليس في بلدهم؟


