يطل الشاعر محمود درويش من غياب 15 عاما ليسكن في كتاب رواه صديقه الصحافي الفلسطيني زياد عبد الفتاح، موثقا فيه بعض أسراره في الحياة والشعر والسياسة.
والكتابة عن درويش تشبه دخول النار، لكن عبد الفتاح مؤلف كتاب (صاقل الماس) دخل المغامرة مسلحا بقلمه وبصداقتهما القديمة وهو الذي رافق درويش في الإقامة والنزوح بين المدن.
يقول عبد الفتاح إن ما ورد في صفحات الكتاب "لا يعرفه أحد غيري". يتناول المؤلف بعضا من أدق التفاصيل في حياة أيقونة الشعر الفلسطيني وخصوصا في زمن حصار بيروت واحتلالها من قبل الجيش الإسرائيلي، عندما لم يكن بينه وبين الموت أو الإعتقال سوى خطوات.
وينقل عبد الفتاح عن درويش قوله "أعرفهم جيدا، من أين أتوا بهذه القسوة والقتل الفاحش الذي يفوق طاقتنا وطاقتهم؟".
بيروت
يتناول الكاتب بالتحليل ردات فعل شاعر فلسطين الأول ولحظات عجز الشعر عن الوصف عندما كان يسمع أزيز الطائرات ودوي القذائف التي تستهدف ما كان يعرف بـ"بيروت الغربية".
يلخص عبد الفتاح صعوبة تلك اللحظات عندما يقول: "أغارت طائرة أعقبتها أخرى، وقفت اللقمة بين أصابعنا.. وربما في حبل الوريد".
ويدوّن الكاتب ما قاله درويش عن تلك الأيام: "أنا لست غوغائيا ولا دوغماتيا، لكنني أرى الطريق أمامهم ينغلق ولا ينفتح. مهما تمادت القوة وانفلتت من عقالها، لا تستطيع حسم معركة وقودها الإنسان".
لكن الأيام التي عجز فيها درويش عن التحرك بحرية أطلقت العنان واسعا لخياله في كتابة واحدة من أروع القصائد (مديح الظل العالي) التي ارتقى فيها إلى أبهى صوره التعبيرية عن بيروت وانكسارها وخروج المقاتلين الفلسطنيين منها وعن تحولّها إلى "غيمة وخَيمة"، يناجي فجرها ومساءها قائلا "يا فجرَ بيروتَ الطويلا / عَجِّلْ قليلا / عَجِّلْ لأعرفَ جيِّداً: / إن كنتُ حيَّاً أم قتيلا".
ويعرج الكتاب على أبيات أشبه بالرثاء لمدينة مكسورة حين يقول درويش "قد أَخسر الدنيا.. نَعمْ / قد أَخسر الكلماتِ والذكرى / لكني أَقول الآن: لا / هي آخرُ الطلقاتِ لا / هي ما تبقَّى من هواء الأرض لا / هي ما تبقَّى من حطامِ الروحِ لا / بيروت لا".
يشير عبد الفتاح لرويترز، إلى أن "أحرف هذه القصائد بدأت تتشكل في بيروت واستكملها درويش في سوريا.. انتشرت مديح الظل العالي ووصلت تونس ووسط العالم العربي" ولأبعد من ذلك.
أسرار
من ضمن الأسرار التي كشفها أن درويش: "كان معارضا للخروج من بيروت"، موضحا أن "قرار خروج الفلسطينيين كان قرارا أميركيا-إسرائيليا وعربيا أيضا".
ويقول لرويترز: "كنت أنا ومحمود موجودين في الفكهاني القريب من مخيم شاتيلا فسألته أن نخرج معا باعتبارنا أصدقاء، فقال لا. أنا لا أخرج، أنت رجل مقاتل تخرج أما أنا رجل شاعر واللبنانيون بيرحبوا فيني وبيحبوني".
ويجزم الصحافي الفلسطيني الكبير أن درويش لم يغادر بيروت فعلا على الرغم من دخول الإسرائيليين إليها وأنه ظل "يسكن فيها قريبا من الجامعة الأمريكية.. عين المريسة.. في الطابق الثامن".
ويوثق عبد الفتاح علاقة درويش بالسلطة الفلسطينية آنذاك بزعامة ياسر عرفات مؤكدا لرويترز أن درويش "كان يعشق ياسر عرفات.. لكنه لم يكن يوافق على كثير من سياساته"، ورفض عرضا من عرفات لتعيينه وزيرا للثقافة بعد العودة إلى رام الله.
ويقول الكاتب إن درويش رفض الذهاب مع السلطة إلى فلسطين في ذلك الوقت رغم كل الإغراءات قائلا "أنا لن أذهب معكم لأن هذا الاتفاق (اتفاقات أوسلو) مثل الخازوق والفلسطينيون لن يحصلوا على شيء".
وبخلاف الاعتقاد السائد فإن درويش وتبعا لرواية صديقه لم يسكن في تونس وإنما كان يزروها قادما من باريس.
تفاصيل
ويتناول الكتاب تفاصيل دقيقة عن حياة درويش الشاعر والإنسان.. عن ترفعه عن الظهور الإعلامي وذكائه وطريقته الفريدة في إلقاء الشعر فضلا عن أناقته في المأكل والملبس. وشكل درويش مع الفنان اللبناني مرسيل خليفة ثنائية فنية أثمرت أعمالا هامة صنفت في إطار الأغنية الوطنية.
ويكشف الكاتب عبد الفتاح أن درويش لم يكن معجبا بمرحلة كتب فيها أشعارا مثل "سجل أنا عربي".
يقول: "الناس عشقوها وهو كان لا يحبها، كأنه يريد أن يتخلص منها فجاءت الأغنية كرستها بالوجدان". وكان مارسيل خليفة هو من غنى هذه القصيدة بأسلوب رائع.
ويرضي الكاتب الثمانيني، الذي كان من مؤسسي وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية (وفا)، فضول القارئ بتناول طقوس درويش في كتابة الشعر، موضحا أنه "عندما يريد كتابة الشعر كان ينقطع عن الناس في منزله".
يتحدث الكتاب الواقع في 303 صفحات من القطع الوسط والصادر عن "مكتبة كل شي" عن الفصل الأخير في حياة درويش في مرحلة المرض والسفر إلى الولايات المتحدة لإجراء الجراحة التي خرج منها ميتا.