في مطلع العام الجاري، توعدت إسرائيل بالتعامل مع المشروع النووي الإيراني وفق عدة سيناريوهات بهدف كبح طموح إيران النووي. وجاء التنفيذ بعد عدة أشهر في أبريل/نيسان الماضي باستهداف مفاعل نطنز بحادث تفجير قالت إيران إن أحد عملاء الموساد نفذه وهرب.
ويحبس العالم أنفاسه مع كل مناسبة يتراشق فيها الطرفان التهديدات والوعيد، خشية تصاعد الأمر إلى عمل عسكري مباشر، وهو سيناريو نفذته إسرائيل قبل أربعين عاما في العراق.
فكيف وأدت إسرائيل المشروع النووي العراقي في مهده؟
في السابع من يونيو/حزيران عام 1981، قصفت ثماني طائرات إسرائيلية من طراز إف 16 مفاعل تموز، أو "أوزيراك" كما كان يعرف في الغرب، بعد أن رأى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك مناحم بيغن إنه كان على وشك أن يصبح تهديدا للأمن الإسرائيلي.
وأعلنت إسرائيل عن تفاصيل متفرقة لعملية "أوبرا" أو "عملية بابليون" في عامي 2015 و2018، من بينها أن الحديث عن استهداف المفاعل بدأ منذ إنشائه عام 1976، لكن ذلك كان رهن جمع معلومات كافية عنه، حتى أن رئيس الموساد السابق شبطاي شفيط قال عام 2018 إن أحد العملاء الإسرائيليين كان موجودا بقرب المفاعل صباح يوم قصفه للإبلاغ عن الأحوال الجوية في هذا اليوم.
وأُقيم المفاعل عام 1976 في منطقة التويثة على بعد 17 كيلومترا من بغداد، وأحيط بساتر ترابي عملاق لحمايته. وجاء ذلك بعد أن توجه وفد من علماء نوويين عراقيين إلى فرنسا لشراء المفاعل "تموز-1" الذي بلغت قدرته 40 ميغا وات، ومفاعل آخر أصغر بقدرة نصف ميغاوات حمل اسم "تموز-2".
وأرسل الرئيس العراقي السابق صدام حسين العديد من العلماء والفنيين لتلقي التدريب في فرنسا على تشغيل المفاعل. كما استقدم علماء من الخارج إلى العراق للإشراف على عمليات التركيب والتشغيل، من بينهم العالم المصري يحيى المشد الذي اغتيل في يونيو/حزيران عام 1980، وأُشير بأصابع الاتهام إلى إسرائيل كونه أحد الداعمين للمشروع النووي العراقي.
وأكد العراق آنذاك على الاستخدام السلمي لهذه الطاقة النووية الوليدة. ولضمان ذلك، غيرت فرنسا من نوعية الوقود المستخدم في المفاعلين، من وقود نووي ذي قدرة 80 في المئة إلى وقود ضعيف بقدرة لا تتجاوز 18 في المئة، وذلك بهدف كبح قدرة العراق على إنتاج سلاح نووي.
وبعد سنوات من الاستعداد العسكري والتدريبات، وعند إعادة انتخاب بيغن عام 1981، قرر تنفيذ عملية استهداف المفاعل بعد استيفاء المعلومات الاستخباراتية عن طريق العملاء داخل العراق، بعضهم كان من العاملين الأجانب في المفاعل نفسه.
وفي صباح 7 يونيو/حزيران، قبل يوم من افتتاح المفاعل رسمياً، حلقت الطائرات الإسرائيلية فوق المفاعل تموز-1 وأسقطت عليه مجموعة من القنابل أدت إلى تدمير قلب المفاعل. في حين لم تستهدف القنابل مفاعل تموز-2 الأصغر حجما وتشغيلا.
JACQUES PAVLOVSKY
وجاء في معلومات نشرتها صحيفة يديعوت أحرونوت عام 2015 عن هذا الهجوم أن الطائرات انطلقت من قاعدة عسكرية في طابا في شبه جزيرة سيناء المصرية، التي كانت خاضعة للسيطرة الإسرائيلية آنذاك، وحلقت خلسة فوق السعودية على ارتفاعات منخفضة ذهابا وإيابا، بحيث لا تلتقطها أجهزة الرادار.
وذكرت الصحيفة أن المخاوف الإسرائيلية بدأت عام 1974 بمجرد تفكير صدام في المشروع، خاصة بعد تراكم معلومات تفيد باحتمال امتلاك العراق القدرة على تطوير سلاح نووي خلال سبع سنوات من تشغيل المفاعل. كما أن إسرائيل حاولت استهداف مفاعل تموز من قبل عام 1979 عن طريق إحداث تفجير نفذه أحد العملاء، لكن التأثير كان مؤقتا ولم يشل العمل في المفاعل.
واحدة من بين هذه الطائرات شاركت في قصف مفاعل تموز-JEAN-MARIE HOSATTE
ولم ينته الطموح النووي العراقي عند هذه النقطة، خاصة في فترة الحرب مع إيران، لكنه لم يرق أبدا إلى أي نشاط بحجم المفاعل الذي دمرته إسرائيل.
ومع طرد المفتشين الأمميين وفرض العقوبات الاقتصادية على العراق في تسعينيات القرن الماضي، انتهى بذلك أمل العراق في تطوير منشآت نووية، حتى تبين خلوه تماما من أي انشطة نووية بعد الاحتلال الأمريكي له بذريعة البحث عن اسلحة الدمار الشامل عام 2003.
ماذا عن إيران؟
ربما من المفارقات أن الطائرات التي استُخدمت في عملية "أوبرا" كانت مخصصة لإيران في الأصل. إذ وقع شاه إيران محمد رضا بهلوي صفقة شرائها من الولايات المتحدة، لكن الثورة الإسلامية حالت دون تسليمها لإيران، وكانت في النهاية من نصيب إسرائيل.
ولا يخشى المسؤولون الإسرائيليون التصريح باحتمال اللجوء للحل العسكري مع إيران، إذ لوح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفسه مرتين بإمكانية اللجوء لعملية جوية تستهدف المنشآت النووية الإيرانية كما فعل سلفه بيغن، كانت إحداهما في عام 2005، والأخرى في عام 2012.
لكن المراقبين يستبعدون احتمال مثل هذه المواجهة المباشرة، إذ أن إيران اليوم لا تشبه عراق الأمس. فالمشروع النووي العراقي كان وليداً ولم يبدأ العمل بعد، وكان تحت رقابة تامة من المفتشين الأمميين والخبراء الفرنسيين.
وفي المقابل، يبدو المشروع الإيراني شديد التقدم بالنسبة لمشروع العراق، إذ استكملت البنية التحتية لمفعلاتها، وتمكنت بالفعل من تخصيب اليورانيوم بمستويات كافية لإنتاج سلاح.
وكان تراجع إدارة ترامب عن الاتفاق النووي الإيراني عام 2018 فرصة لاستكمال عمليات التخصيب بعيدا عن قيود الاتفاق، إذ أعلنت إيران - كرد فعل على الموقف الأمريكي - تشغيل أجهزة طرد مركزي متطورة، واستئناف التخصيب حتى تركيز 20 في المئة وبناء مخزون من تلك المواد.
كما تحظى إيران بدعم من روسيا والصين في الوقت الراهن بينما كان المعسكر الشرقي وقتها في حالة ضعف وقت بناء المشروع العراقي إبان الحرب الباردة، ما سهل من عملية التضييق على العراق.
لكن ذلك لا يعطي حصانة كاملة للمنشآت النووية الإيرانية، إذ تحاول إسرائيل تنفيذ عمليات تخريب دون التدخل العسكري المباشر، كان آخرها اغتيال كبير العلماء الذرة الإيرانيين محسن فخري زاده مطلع هذا العام، ثم التفجير في منشأة نطنز في أبريل/نيسان الماضي.
وتتمسك إيران في المقابل بحماسها ودأبها على تطوير قوتها النووية، وقالت وقت تفجير نطنز إنها ستعمل على استكمال تخصيب اليورانيوم به خلال تسعة أشهر.