قبل أن تلفظ الهدنة ألفاظها وأثناء إشاعة المسؤولين الأميركيين الأنباء عن أنهم يعملون على تمديد ثالث لها من أجل الإفراج عن مزيد من الرهائن، كان العديد من الأوساط الإعلامية والسياسية في إسرائيل وخارجها يستند إلى المواقف الإسرائيلية المعلنة من أجل توقع العكس.
لم يكذّب نتنياهو ومجلس الحرب الإسرائيلي ذلك، بل أثبتاه بالممارسة. خاب ظنّ من خدعتهم التصريحات والمواقف التي بدا أن معظمها مصطنع، باستثناء الساعين فعلاً من أجل وقف إطلاق النار ومواصلة العمل على تمديد الهدنة، مثل مصر وقطر، لعلها تفتح أفقاً من أجل البحث في الحلول السياسية، ولو كانت سراباً.
مهما كانت التفسيرات التي تعطى للجموح الإسرائيلي في مواصلة ارتكاب المجازر ضد المدنيين الفلسطينيين والانتقام الجماعي إلى حد الإبادة، على أنها لأهداف داخلية يريد من ورائها بنيامين نتنياهو إنقاذ نفسه من المحاسبة، ولتجنب طرده من الحياة السياسية الإسرائيلية، ومعه شلة المتطرفين المحيطين به، فمن المؤكد أن هدف استئناف العملية العسكرية البرية أبعد بكثير من تلك التفسيرات.
قد يكون العامل الداخلي المؤثر في هذه الحرب هو تنامي الرفض الشعبي لقيادة نتنياهو للدولة العبرية في التظاهرات التي تزداد كثافة للمطالبة بإعادة النظر بالأولويات لجهة تقديم الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين لدى "حماس" على الاقتحام البري، حتى لو كلف ذلك القبول بشروط الأخيرة، بحيث يفرض ذلك على مجلس الحرب أن يعود إلى التفاوض من أجل التبادل، وقد تلجأ القيادة الإسرائيلية في هذا السياق إلى لعبة الحرب المتقطعة أي هدنة ثم قتال، وهكذا دواليك. لكن المؤكد أنه ليست الخلافات بين نتانياهو وبين وزير دفاعه يوآف غالانت، ولا ما يحكى عن خلافات بين القادة الإسرائيليين وبين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ستغيّر مسار الإصرار الإسرائيلي على أهداف الحرب. فعلى رغم حديث الخلافات هذا بين تل أبيب وواشنطن، هناك من يعتقد بين المراقبين حتى من الداخل الإسرائيلي، بأنّ الإكثار من الإشارة إلى الخلاف بين الدولتين هو شكل من أشكال التغطية الدولية على ارتفاع وتيرة المجازر في شمال وجنوب غزة منذ يوم الجمعة الماضي. ويلفت المتابعون للمواقف الأميركية تناقضها في العديد من الحالات، ومثلاً على ذلك:
- ما نقلته "نيويورك تايمز" أول من أمس عن مسؤول أميركي كبير بأن إدارة الرئيس بايدن "اطلعت" على الخطط العسكرية الإسرائيلية (بعد سقوط الهدنة) قبل تنفيذها.
- تأكيد وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بعد سقوط الهدنة دعم بلاده لإسرائيل في حربها وأنه دعم غير قابل للتفاوض.
- تأكيد نتنياهو أنه على رغم الخلافات تنجح إسرائيل في إقناع حلفائها وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية بصوابية موقفها.
في ظل هذه الوقائع، ما هي مفاعيل كافة التصريحات الأميركية (نائبة الرئيس كاملا هاريس)، والغربية، التي تكرر رفض واشنطن أي تغيير في حدود غزة وأي تهجير لسكانها، وبعد أن طالب وزير الخارجية أنطوني بلينكن بأن تتجنب إسرائيل قصف المدنيين، في وقت يتحقق كل ما يعلن الجانب الأميركي رفضه، على أرض الواقع؟
المنحى الذي تسلكه العملية العسكرية الإسرائيلية، مع الإصرار على إقامة حزام أمني في جزء من غزة، فضلاً عن الحملة العسكرية في الضفة الغربية، يفضي إلى جعل المناطق الفلسطينية "أرضاً بلا شعب" كي يتحكم بها "شعب بلا أرض" وفق معادلة الحركة الصهيونية والتي سبق لمؤسسيها من ثيودور هرتزل ودايفيد بن غوريون إلى حاييم وايزمان أن رددوها.
استحالة هدف القضاء على "حماس"، باتت مثبتة بحكم مواصلة الأخيرة اصطياد الجنود الإسرائيليين في شوارع شمال غزة، وقصفها تل أبيب بالصواريخ. ومع أنّ بعض القادة الأوروبيين الذين محضوا إسرائيل ضوءاً أخضر لحملتها العسكرية تحت عنوان "حقها في الدفاع عن النفس"، يقرون أنّ إنهاء "حماس" سيتطلب عشر سنوات كما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فإنّ قادة الدول الغربية يشاركون نتنياهو في الأهداف حين يطلبون أن تتحول إدارة القطاع إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، بدلاً من "حماس" ثم يرددون مع رئيس الحكومة الإسرائيلية أن هذه السلطة تحتاج إلى تغيير، فيقحمون أنفسهم في حلقة مفرغة من المطالب التي يواصل اليمين الإسرائيلي التلطي بها من أجل مواصلة تنفيذ خطته تصفية القضية بجعل الحياة مستحيلة في شمال غزة. فاشتراط إبعاد "حماس" عن إدارة القطاع، ثم اشتراط تغيير السلطة الفلسطينية لكي تتولى هي إدارة القطاع، هي الوجه الآخر لما سبق أن ادعته إسرائيل منذ العام 2000 حين اعتبرت أنّ "أبو عمار" ليس شريكاً في عملية السلام، من أجل تبرير عدم تنفيذ اتفاقية أوسلو، في وقت عملت الدولة العبرية بالتفاهم مع أميركا على إنكار وجود الشريك، وصولاً إلى اغتياله... محاولة إلغاء "الشريك الفلسطيني" تتكرر في العام 2023 .
نداء الوطن