تحت عنوان "متبرّع مجهول يحوّل بلدة شاطئية صغيرة لأكبر تجربة لاستخدام "بتكوين" بالعالم"، نشر موقع بلومبرغ الشرق خبرًا، اشار فيه إلى أنه قبل وقت قصير من بدء ذرف الدموع في القاعة؛ فإنَّ الموضوع الذي يسيطر على هذا التجمُّع هو التضخم. يتبختر جاك مالرز، على المسرح كواعظ ديني يحفِّز مشاعر جمهوره، ويقول: "نحن نشهد قدراً غير مسبوق من التوسع النقدي للبنوك المركزية حالياً"، وأضاف: "إنَّه أمر مخيف للغاية".
مؤتمر يبحث مستقبل "بتكوين"
هذا المشهد، يستحضر إلى الأذهان محاضرات "محادثات تيد" التي تجري في المناطق الاستوائية، ويجري تقديم الحدث من شاب حنطي البشرة بشعر مموج، ويرتدي سترة غير رسمية بقبعة للرأس. وإذ يبدو الشاب ذو الـ27 عاماً، وكأنَّ شاطئ البحر قد قذفه للمسرح، بعد ليلة قضاها في الاحتفال.
كان ذلك المشهد في مؤتمر تمَّ تحت عنوان "عملة بتكوين 2021"، الذي عُقد لمدة يومين في ميامي، في أوائل شهر يونيو الحالي، فقد احتشد 12 ألف شخص لمناقشة مستقبل عملة "بتكوين". وضمَّ الحشد شباباً من محبي الموسيقى الالكترونية
اللاسلطويين، ومجموعة من المصرفيين في "وول ستريت"، والكثير من أصحاب الفضول في العملات المشفَّرة.
مالرز، وهو مؤسس شركة ناشئة لتحويل الأموال، وتختص بعملة "بتكوين"، تحمَّل اسم "سترياك". وقد تنقَّل سريعاً في حديثه بالمؤتمر بين التضخم، والمسرحية الهزلية التي يمارسها البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، لينتقل لطرح الموضوع الحقيقي للحدث، وهو الظلم المالي في العالم النامي. ففي السلفادور، كما يقول مالرز، وهي الدولة التي تخلَّت قبل عقدين من الزمان عن عملتها الخاصة مقابل الدولار الأمريكي؛ فإنَّ 70% من السكان لا يتعاملون مع البنوك، ويحصل الكثير منهم على دخلهم من خلال التحويلات المالية المثقلة بالرسوم الباهظة. إذ؛ كما يقول مالرز أيضاً، لم يتبقَ أمام الناس في البلاد سوى خيار الفرار من وطنهم أو اللجوء إلى الجريمة والعنف. وأوضح مالرز متابعاً: "إذا تمكَّنت من العودة بالوراء لما قبل هذه الخطوات..إذا استطعت إصلاح موضوع الأموال، فإنَّك تستطيع إصلاح العالم".
العدالة المالية
الآن يأتي دور ذرف الدموع؛ إذ يكمل مالرز حديثه بصوت متحشرج، ويقول، إنَّ سبب انتقاله إلى بلدة صغيرة في السلفادور لمدة ثلاثة أشهر، كان لمساعدة هؤلاء الأشخاص، وإطلاق شركته هناك كذلك. فيقول، وهو يستعرض صور له مع شباب من السلفادور على شاشة كبيرة في القاعة: "تحدَّثت إلى الشباب الصغار.. قلت لهم يا شباب، سنتولى الأمر، عملة "بتكوين" هنا، سنحلُّ الموضوع".
وعندما وصل مالرز بحديثه إلى الجزء المتعلِّق برئيس السلفادور، وكيف أنَّه طلب منه المساعدة في كتابة مشروع القانون الذي حوَّل عملة "بتكوين" إلى عملة رسمية في البلاد، كان مالرز ينتحب بالبكاء بالفعل. مستعرضاً مقطع فيديو للرئيس السلفادوري نجيب بُقيلة أثناء إصدار الإعلان الرسمي للقانون. واتبع مالرز حديثه بتمزيق سترته الواسعة، ليكشف عن قميص كرة قدم لمنتخب السلفادور يرتديه تحتها، وهو قميص أُهدي إليه من الرئيس نفسه، وسرعان ما ضجَّ المكان بصيحات الحضور إثر ذلك.
بلدة "إل زونتي عند الفجر، السلفادور
الانتماء للـ"بتكوين"
تجري عملية التحوُّل نحو عملة "بتكوين" في السلفادور منذ فترة، وهي مستمرة حتى الآن. وكان "بقيلة" يتحدَّث عن استعمال العملة المشفَّرة حتى قبل أن يفوز بمنصبه في عام 2019. إذ يمتلك السياسي الذي ينتمي بجيل الألفية- بالإضافة لأعضاء حزبه السياسي " أفكاراً جديدة"- عملة "بتكوين" منذ سنوات، وذلك وفقاً لشخصين في الحكومة لم يرغبا في أن يُنقل عنهم أي تعليق يتناول الشؤون المالية للرئيس. ألمح "بقلية" برغبته في اعتماد العملة المشفَّرة في عام 2017، عندما كان عمدة مدينة سان سلفادور، حينها كتب "تغريدة" على موقع "تويتر" تقول: "سنستخدم بتكوين".
يعدُّ أفضل مكان لمشاهدة انتقال السلفادور وسط كل ما يحدث، هو بلدة إل زونتي، وهي قرية لركوب الأمواج تقع على ساحل المحيط الهادئ في البلاد. وفي عام 2019، بدأ فريق صغير من المتطوعين المحليين، والمغتربين الأمريكيين في تحويل الاقتصاد المحلي للبلدة ليعمل على "بتكوين". فقد بات العمال يتلقُّون رواتبهم، ويدفعون فواتيرهم بعملة "بتكوين" حالياً، كما يمكن للسيّاح شراء طبق طعام "بوباس" من خلال تطبيق للمدفوعات المالية خاص بعملة "بتكوين"، ويجري تمويل المشاريع المجتمعية أيضاً من خلال تبرعات بـ"بتكوين". وعن ذلك، يقول لخورخي فالينزويلا، وهو شاب متفائل وهاوِ لرياضة ركوب الأمواج، يبلغ من العمر 32 عاماً، ويقود المتطوعين: "لقد غيَّرت بلدتي".
آلة الصراف الآلي الخاصة بعملة "بتكوين" في إل زونتي بالسلفادور
شاطئ "بتكوين"
في أوائل شهر مايو الماضي، قبل شهر من إعلان "بقيلة" عن اعتماد عملة "بتكوين" في البلاد، قضيت أربعة أيام في بلدة إل زونتي. وللوصول إلى هناك أخذت الطريق السريع المكوَّن من مسارين، الذي يمتد على طول ساحل المحيط الهادئ في السلفادور، ثم كان عليَّ أن أسلك طريقاً متعرجاً، متجاوزاً سياجاً معدنية، وماراً بجوار كلاب الشوارع النائمة تحت أشجار المانغو. ثم بدأت رمال الشاطئ السوداء البركانية باللمعان أمامي، مع الأمواج المتدحرجة المنكسرة بقوة، التي حوَّلت هذه البلدة التي يبلغ عدد سكانها 3 آلاف نسمة إلى وجهة للأجانب الذين يمارسون رياضة ركوب الأمواج (الركمجة). لكنَّ الشيء الأكثر لفتاً للانتباه في البلدة حالياً هو انتشار حرف "B" البرتقالي (الرمز الدولي لعملة "بتكوين"). الذي تراه متناثراً بوضوح على علب القمامة، بالقرب من مدخل ترابي لمكان بيع فطائر البيتزا، وهو معلَّق على حائط بالقرب من كوخ ركوب الأمواج في الفندق المواجه للشاطئ. وباتت به البلدة التي تخلو من أي بنك، تمتلك جهاز صراف آلي وحيد لبيع وشراء "بتكوين".
تجمُّع لمحبّي الـعملة الرقمية
في أمسية دافئة كثيرة النسمات، اجتمع مالرز مع طاقم دولي من المؤثرين في مجال عملة الـ"بتكوين"، أثناء تناول سمك النهاش الأحمر الذي جرى اصطياده حديثاً، في مطعم على سطح فندق "جارتن"، وهو فندق حديث فاخر مع إطلالات واسعة النطاق. وكما يعرف هنا، فإنَّ بذرة عملة "بتكوين" الأساسية وضعت في بلدة إل زونتي، في عام 2019، من خلال متبرِّع أمريكي مجهول الهوية.
مشروع "شاطئ بتكوين"، كما يطلق عليه منظِّمو المشروع منذ ذلك الحين، أصبح يمثِّل تجربة تخضع للرقابة لاختبار عملة بديلة، ومساعٍ بأهداف خيرية، ودعوة لرأس المال، وكل ذلك مع نفحة من عُقدة المُخلّص.
وقد جاء طاقم العمل الأجانب إلى البلدة، إما لمشاهدة التجربة عن كثب، أو لمعرفة كيفية تصديرها إلى مكان آخر. ومن هؤلاء بيتر ماكورماك، وهو بريطاني بجسم مغطى بالوشوم، وهو يعيش بطريقة متقطعة في بلدة إل زونتي، منذ قدومه للتحقق من المشروع العام الماضي. ماكورماك هو أيضاً مضيف برنامج "ماذا فعلت بتكوين"، أشهر برامج البث الصوتي "بودكاست" فيما يخص عملة "بتكوين" في العالم، وهو يمر لتوقف طويل في البلدة قبل متابعة رحلته إلى مايلز سوتير بالولايات المتحدة، إذ يساعد في إدارة أعمال عملة "بتكوين" لتطبيق "كاش آب" التابع لشركة "سكوير". وهذا الرجل الذي يصف نفسه بأنَّه "قلق"، اتجه منذ أن حطَّ في المطار إلى البلدة، على أمل معرفة أسرار مشروع "شاطئ بتكوين" إذ يتمكَّن من تطبيقه في ضواحي مدينة كينغستون، عاصمة جامايكا، كما يقول.
حل مشكلة قائمة
خلال العشاء، شارك الجالسون قصصاً حول شعورهم بخيبة الأمل من النظام الاقتصادي العالمي، كما تحدَّثوا عن النقد اللاذع والاستقطاب الذي يحصل بين المتعاملين في عملة "بتكوين" على "تويتر"، كما تناول الحديث المتعاملين بالعملات الرقمية الأخرى المحدودة القيمة، أو كما يصفونهم "شيت كوينرز"، وهو وصف أُطلق على هؤلاء من قبل أتباع "بتكوين". وهي تقريباً النقاشات المثيرة للجدل نفسها، التي تدور حول العملة المشفَّرة بين أولئك المحظوظين بما يكفي ليكونوا جزءاً من هذا الاقتصاد الناشئ. ترتكز عملة "بتكوين" على نظام يتمحور حول الإيمان بها، أكثر من كونها ترتكز على نظام مالي.
في إل زونتي، تمثِّل "بتكوين" حلاً ممكناً لمشكلة قائمة بالفعل، وهي ليست كما يقول منتقدوها؛ ففي الولايات المتحدة مثلاً، ثمَّة حل يبحث عن مشكلة. ولا يعد تبنّي الاقتصادات الناشئة للتقنيات الجديدة، قبل الاقتصادات الأكثر رسوخاً بالأمر الجديد. فقد كان البرازيليون من أوائل المستخدمين للخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول، لأنَّها كانت تقدِّم طريقة أسرع لتحويل الأموال النقدية حول العالم، التي كانت خلال أيام التضخم المفرط أصلاً سريعة التراجع في القيمة. كما انتشرت تطبيقات المحافظ الرقمية في دول مثل الهند وكينيا، حيث لا تتعامل نسبة كبيرة من السكان مع البنوك. وتعتبر أمريكا اللاتينية، وهي منطقة ابتليت لفترة طويلة بالعملات المتذبذبة، أرضاً خصبة بصفة خاصة لهذه التقنيات. وقبل ثلاث سنوات، أصبحت فنزويلا أوَّل دولة تُطلق عملة رقمية مدعومة من البنك المركزي، التي أطلق عليها اسم "بترو".
تجربة على أرض الواقع
يقول سوتير من شركة "سكوير": "الشيء المختلف بشأن ما يحدث هنا في بلدة إل زونتي، هو مستوى الاستخدام والانتشار السريع لهذه التقنيات التي تراها تنتشر من عائلة إلى أخرى، وعلى الساحل من بلدة إلى أخرى".
سوتير هو لاعب رياضة "لاكروس" سابق، ممن تلقوا تعليمهم في الجامعات العريقة، وقد سبق وطُرد من وظيفته كمتداول أسهم في "وول ستريت" بسبب مشاركته في احتجاجات "احتلوا وول ستريت". وقد وجد هدفاً يكرِّس له قدراته، فيما يمكن أن تحققه عملة "بتكوين"، خاصة في البلدان التي تعاني من مشاكل مالية، وقد زار سوتير إل زونتي العام الماضي، في طريقه للأرجنتين، إذ كان يريد التحقق من كيفية استخدام البلاد للعملة. ويتابع سوتير حديثه: "لقد وجد متعاملو عملة "بتكوين" في أنحاء العالم، بلداً يمكنهم الانتماء له". ولم يكن أحد على طاولة العشاء حينها، يمكنه القول، إنَّه كان يعلم أنَّ السلفادور ستصبح قريباً الدولة الأولى التي تعتمد عملة "بتكوين" كعملة قانونية.
بحلول المساء، طلب ماكورماك زجاجة نبيذ أحمر، في حين كان معظم موظفي الفندق قد انتهوا من عملهم وذهبوا. وأخذت المجموعة تتحدَّث عن مشاريع من نوع "شاطئ بتكوين" يمكن أن تُطبق وتنتشر في بلدان أخرى، ربما في فنزويلا أو لبنان، فقد سلب انهيار العملة مدخرات الناس. ويقول ماكورماك، وهو يشير بنظرة خاطفة لمايكل بيترسون، وهو مواطن من كاليفورنيا يبلغ من العمر 47 عاماً، وبمثابة أب غير متوقَّع لمشروع "شاطئ بتكوين": "كل ما نحتاج إلى فعله هو استنساخ هذا الرجل".
حارس الإنقاذ، إدوين فالينزويلا، يقبل الدفع بعملة "بتكوين" في بلدة إل زونتي الشاطئية بالسلفادور
المتبرع المجهول وبداية التحوّل
في اليوم السابق، قمت بزيارة مكتب بيترسون في مبنى من طابقين بلون أبيض مائل للصفرة، وهو يقع أسفل التل من الطريق السريع، ويشترك العاملون الآن في المكتب في مشروع "شاطئ بتكوين" مع موظفي تطبيق "سترياك" التابع لمالرز. وقد جاء بيترسون لأول مرة إلى البلدة، منذ 17 عاماً في رحلة لركوب الأمواج، وذلك قبل فترة طويلة من أن تصبح إل زونتي منطقة جذب سياحي، وقد أحبها. وكان في هذه الأوقات، يدير شركة امتياز طعام عائلية في كاليفورنيا. وبات في فترة الإجازات، يقوم هو وزوجته بريتني وأطفالهما، بتقسيم أوقات إقامتهم بين منزلهم في بلدة سان دييغو، وبلدة إل زونتي. وقد دعمت عائلة بيترسون، البعثات التبشيرية التي التقوا بها من خلال الكنيسة المسيحية الإنجيلية التي يرتادونها في سان سلفادور، وبدأوا العمل في تمويل مشاريع التنمية الصغيرة، والعمل مع الكنائس المحلية، والمجموعات المجتمعية.
ثم في أوائل عام 2019، جرى تعريف بيترسون، الذي ما يزال يستخدم حساباً على موقع "إيرث لينك" القديم، إلى متبرع مجهول الهوية من خلال شخص في الكنيسة. وبدا الاقتراح الذي سمعه بيترسون، وكأنَّه خدعة، وكان كالتالي: "متبرع مجهول في كاليفورنيا اشترى كنزاً من عملات "بتكوين"، وهي من المفترض أنَّها تساوي ثروة الآن". ومن خلال أحد المستشارين، أخبر المتبرع بيترسون أنَّه يريد إنشاء اقتصاد محلي يعمل على عملة "بتكوين"، والشرط الوحيد هو ألا يتم صرف الـ"بتكوين" إلى عملات ورقية.
فكر بيترسون في الأمر، وزاد اهتمامه بالموضوع، وقرر أن يوافق. وهو يقول: "إنَّه أمر يسمح للجميع من الأفقر إلى الأغنى بالمشاركة في الملعب نفسه.. لقد شعرت حقاً، أنَّ هذا شيء يمكن أن يغير إل زونتي بالكامل". وأكَّد بيترسون أنَّه ما زال لا يعرف هوية المتبرع.
اقتصاد بنظام مالي جديد
بحلول منتصف عام 2019، كان بيترسون قد صاغ خطة لإنشاء اقتصاد قائم على عملة "بتكوين"، ووظَّف فريق عمل صغير من سكان البلدة، وعمل معهم هو وزوجته بريتني لسنوات. وبعد محاولة غير موفقة لإقناع كبار السن، استهدفوا سكان البلدة الأقل مقاومة للتكنولوجيا على الأرجح، إذ دفعوا لشبان مراهقين بالعملات المشفَّرة، لقاء جمع القمامة على طول النهر. ثم أقنع فالينزويلا، مُنسق المشروع، متجراً واحداً في البلدة لقبول "بتكوين" كوسيلة للدفع.
وبالرغم من كل هذه الجهود، إلا أنَّ ما أعطى المشروع انطلاقته الحقيقية في النهاية، كان وباء كورونا. فعندما انهارت صناعة السياحة في السلفادور واقتصاد بلدة إل زونتي معها، بدأ بيترسون بإجراء تحويلات شهرية بحوالي 35 دولاراً بعملة "بتكوين" إلى 500 عائلة في جميع أنحاء البلدة. مستخدماً تطبيق "محفظة ساتوشي" (Wallet of Satoshi)، وهو أحد تطبيقات الهواتف الذكية العديدة التي جرى تطويرها لإجراء المعاملات الصغيرة باستخدام عملة "بتكوين"، وهي مشهورة بكونها غير عملية- باهظة الثمن وبطيئة – فيما يتعلَّق بعمليات الشراء اليومية.
مايكل بيترسون وعائلته، في إل زونتي بالسلفادور
تطبيق خاص بمعاملات البلدة
مع زيادة عدد المتاجر التي كانت تستفسر عن كيفية قبول المعاملات بعملة "بتكوين"، قرر بيترسون أنَّ بلدة إل زونتي باتت تحتاج إلى تطبيق خاص بها. وبالفعل، تمَّ إطلاق تطبيق "محفظة شاطئ بتكوين" (Bitcoin Beach Wallet)، في شهر سبتمبر الماضي. ويستخدم التطبيق تقنية تسمح بإجراء المعاملات الصغيرة. كما يُظهر للمستخدمين مقدار ما يمتلكونه من عملات "بتكوين"، وكم تبلغ قيمتها من الدولارات، وأين يمكنهم إنفاقها؟. وتقوم المتاجر في البلدة بتسعير كل شيء بالدولار، سواء كانت معاملة الدفع تتمُّ بـ"بتكوين" أم لا. إذ تبلغ تكلفة مشروب "كابتشينو" دائما 3.50 دولاراً، بغض النظر عن ارتفاع قيمة عملة "بتكوين" أو انخفاضها. وبهذه الطريقة، فإنَّ "بتكوين" تؤدي وظيفتها كقسيمة شراء رقمية، أكثر من كونها عملة.
يتضح احتضان البلدة لـ"بتكوين" بمجرد النظر إلى التطبيق. ففي حين يمرر بيترسون إصبعه عبر جهاز "أيفون" الخاص به، تتلون الشاشة بالنقاط الحمراء، التي تمثِّل كل واحدة منها إحدى 48 جهة التي تقبل عملات "بتكوين" كوسيلة للدفع في المدينة. وتبدو النقاط وكأنَّها بُقع حمراء تنتشر من مقر مكتب بيترسون عبر البلدة، وإلى أعلى وأسفل الساحل. ويقول بيترسون، إنَّه بعد 18 شهراً من إطلاق المشروع؛ فإنَّ حوالي 90% من الأُسر في البلدة باتت تتفاعل مع "بتكوين" بانتظام. يقول: "مدى سرعة الانتشار التي اكتسبتها عملة "بتكوين" تعد نوعاً من الجنون".
تجارب السكّان المحليين
كذلك، تستخدم الشركات العملة الرقمية لدفع فواتيرها وقبول المدفوعات. ويستخدم السكان "بتكوين" عبر تطبيق "سترياك" لإجراء التحويلات، وعبر أجهزة الصراف الآلي، كما يجرون المعاملات من نظير لنظير، وللانتقال ذهاباً وإياباً بين عملة "بتكوين" والأموال النقدية. هناك أيضاً سيدة من السكان المحليين تحوَّلت إلى أحد صنَّاع السوق، لقد أصبحت تشتري "بتكوين" من سكان البلدة عندما يحتاجون إلى النقود، ثم تعود لتعقد صفقة بها مع المستثمرين المتحمسين للعملة، والكثير من هؤلاء يأتون من مدينة سان سلفادور، إذ كان من المستحيل شراء العملة المشفَّرة آنذاك.
وبالنسبة لبعض مَن هم في بلدة إل زونتي، كانت فوائد عملة "بتكوين" تتزايد بشكل تدريجي، في أحسن الأحوال. إذ يقول العديد من أصحاب الأعمال، إنَّ "بتكوين" تشكِّل جزءاً صغيراً من مبيعاتهم. فعلى الرغم من أنَّ حوالي 85% من العائلات في البلدة لديها إمكانية الوصول إلى الهواتف الذكية، إلا أنَّ العديد منهم ما يزالون يعيشون في منازل ضيقة بأرضيات ترابية وأسقف من الصفيح.
لكن بالنسبة للآخرين في البلدة، فقد كان من الواضح أنَّ "بتكوين" قد غيَّرت حياتهم. إذ بات يمكن لرئيس طاقم بناء أن يدفع لعشرات الموظفين باستخدام عملة "بتكوين". بعد أن كان قد سئم من تضييع موظفيه لمدة نصف يوم شهرياً خلال يوم دفع الأجور، وذلك للحصول على أموالهم، بعد السفر إلى أقرب بنك، الذي يقع على بعد ساعة بالحافلة.وقد أخبرني أدريان توريس، 62 عاماً، وهو أحد أفراد الطاقم، أنَّه أصلح أسنانه بالمال الذي قام بادخاره من عملة "بتكوين"، وهو الآن يدخر لشراء بقرة.
تقول ماريا ديل كارمن، وهي أم لستة أطفال، إنَّها كانت متشككة إزاء حفظ الأموال على هاتفها. ولكنَّها بدأت على مضض في قبول مدفوعات العملة الرقمية مقابل خدمات مطعمها الصغير، الذي تديره من مطبخ قابع أمام منزلها. وتستحوذ "بتكوين" الآن على نحو نصف مبيعاتها التي تبلغ 45 دولاراً في اليوم تقريباً. وقد هاجر أربعة من أبناء ديل كارمن إلى الولايات المتحدة، حيث يعيش حوالي 2.5 مليون سلفادوري، ويرسلون إلى أوطانهم 4.5 مليار دولار سنوياً على شكل تحويلات مالية من المقيمين في الخارج. والآن، بدلاً من أن تتلقى الأموال من ابنتها في كاليفورنيا كالعادة، قامت ديل كارمن بإرسال ألفي دولار من مدخرات "بتكوين" لابنتها، كما تقول. وما يزال لديها ما يقرب من ألفي دولار في حسابها من العملة الرقمية.
في محل "بوينت بريك كافيه"، يقول المالك إنزو روبيو، إنَّ استراتيجيته للتعامل مع جميع المدفوعات من عملة "بتكوين"، هي بالتعامل معها كحساب توفير لا يخطط للمسه أبداً. وفي شهر نوفمبر الماضي، قَبِل روبيو الطلب السداد الأول بعملة "بتكوين" بقيمة 10 دولارات. وأثناء زيارتي للبلدة، ارتفعت هذه القيمة إلى 30 دولاراً، وهي الآن أعلى بقليل من 22 دولاراً. ولقد نجح روبيو في التغلُّب على نوبات التقلُّب هذه، من خلال الاهتمام بالمتوسط المتحرِّك لعملة الـ "بتكوين"، على حدِّ قوله، ووصف استراتيجيته إزاء العملة المشفَّرة، قائلاً إنَّه "يحتفظ بالصفقة"، أو (HODL) بلغة المتعاملين في عملة الـ"بتكوين"، وهي تعني "الشراء والاحتفاظ".
تطبيق "شاطئ بتكوين" الذي يُستعمل للتعاملات المالية في إل زونتي بالسلفادور
الكثير من التقلبات
تُعدُّ تجربة بلدة الزونتي مع "بتكوين" من بين التجارب الأطول من نوعها، لكنَّها
ما تزال غير مختبرة فعلياً إلى حد كبير. ويقول ماكورماك، صانع حلقات البث الصوتي البريطاني: "سأكون مهتماً جداً برؤية ما سيحدث إذا دخلنا في سوق منخفضة.. إذا كنت صاحب متجر، ولديك 50 دولاراً في اليوم من مبيعات "بتكوين"، وفجأة ارتفعت إلى 60 دولاراً، فهذا سيكون رائعاً. ولكن ماذا يحدث عندما يبدأ السعر في الانخفاض إلى 40 دولاراً أو 30 دولاراً؟".
في 12 مايو الماضي، كتب إيلون ماسك، مالك شركة "تسلا" "تغريدة" على موقع "تويتر" تفيد أنَّ شركته لن تقبل مدفوعات عملة "بتكوين"، بسبب المخاوف حول التأثير البيئي لتعدين العملة المشفَّرة، وهو ما أدى إلى تراجع عملة "بتكوين". وكانت "تغريدة" ماسك مفاجأة، بالنظر إلى أنَّ الملياردير قال قبل بضعة أشهر فقط، إنَّ شركة "تسلا" ستقبل عملة "بتكوين"، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار العملة حينئذ.
وفي النهاية، فقد وصل سعر العملة لأدنى مستوى له عند 30 ألف دولار، مما تسبب لحدوث ما يمكن وصفه بكلمة ملطفّة، كاضطراب. وقد انتعش السعر منذ ذلك الحين، ووصل إلى حوالي 40 ألف دولار في تاريخ 14 يونيو الحالي، وهذه المرة تغير المسار مرة أخرى بدفع من ماسك.
يعتبر التقلُّب واحداً فقط من العديد من الأخطار التي تشكِّلها عملة "بتكوين" في وضع مثل "شاطئ بتكوين"، وقريباً، في كامل السلفادور. فبعد إعلان الرئيس في 5 يونيو عن تحويله "بتكوين" لعملة قانونية، ذهب الشاب البالغ من العمر 39 عاماً إلى مساحات "تويتر" ليشرح كيف أثرت بلدة إل زونتي في قراره، قائلاً: "لقد أظهرتم يا رفاق أنَّ المجتمع بأكمله يمكنه الاستفادة فعلياً من عملة "بتكوين"، والآن سنقدِّمها على مستوى البلاد". وبعد يومين من تمرير السلفادور لمشروع قانون يعتمد "بتكوين" كعملة موازية، كان صندوق النقد الدولي يضغط بالفعل، محذراً، من أنَّ "أصول العملات المشفَّرة يمكن أن تشكِّل مخاطر كبيرة".
تجربة تمرر في أنحاء البلاد
منذ تمرير مشروع القانون، يقول بيترسون، إنَّه غُمر بطلبات من البنوك، وشركات الاتصالات وغيرها، وكانت تطلب جميعاً معلومات حول المشروع وعملة "بتكوين" بصفة عامة. وأصبح عدد مرات تنزيل تطبيق "شاطئ بتكوين"، وتطبيق "سترياك" من بين أكثر ثلاث تطبيقات مالية لهواتف "أيفون" في السلفادور، وقد زاد عدد المعاملات على تطبيق "شاطئ بتكوين" بمقدار عشرة أضعاف، لتصل إلى حوالي 8 آلاف معاملة في اليوم، بحسب بيترسون.
تغيَّرت خطط بيترسون أيضاً. في نهاية المطاف، كان ينوي خفض قيمة عملة الـ "بتكوين" التي كان يرسلها إلى بعض المشاريع الصغيرة (5 آلاف دولار لبرنامج تدريب رجال الإنقاذ، وألف دولار شهرياً لبرنامج المنح الدراسية للطلاب)، بحيث يترك مجالاً للحكومة بإكمال العمل، ومعرفة ما إذا كان يمكن للآخرين العمل بمفردهم.
والآن يرى بيترسون نفسه يساعد في طرح النموذج الذي أنشأه في المدن المختلفة في جميع أنحاء البلاد. وتكمن الفكرة في المساعدة على بناء القدرات باستخدام إصدار يجري التحكم فيه محلياً من نموذج "شاطئ بيتكوين بيتش"، ليكون نوعاً من البنك المجتمعي عبر الإنترنت لعملة "بتكوين". وقال بيترسون في مقابلة عبر الهاتف، بعد أيام قليلة من إقرار مشروع القانون: "كان هناك قدر كبير من الاهتمام بعملة "بتكوين" في الأيام القليلة الماضية.. نريد المساعدة في بناء القدرات، وجلب وظائف مرتبطة بعملة "بتكوين" إلى السلفادور. كان هذا حقاً هدفنا طوال الوقت". ولكن بالطبع، كلما كبرت التجربة، قلَّ تحكُّمك فيها.
نال السكان نصيبهم من الذعر المرتبط بعملة "بتكوين"، خاصة خلال الانخفاضات الأولى في الأسعار، ذلك وفقاً لبيترسون، الذي حاول طمأنتهم من خلال شرح حالات الصعود والهبوط في السوق. ويعمل فريقه على إعداد السكان للتعامل مع دورة هبوط ممتدة في العملة، عن طريق تحويل بعض الأصول إلى الدولار الأمريكي، أو إجراء عمليات شراء كبيرة خلال ارتفاع الأسعار.
هوغو كونتيراس، يلتقط الصور لراكبي الأمواج، وهو يتقاضى أجراً أعلى للصور في حال كان الدفع بـ"بتكوين"
بات بعض السكان المحليين فعلياً يفكرون استباقياً بخطوات للأمام. فبعد ساعة من شروق الشمس في آخر يوم لي في بلدة إل زونتي، كنت أمشي إلى مدخل الشاطئ بجوار حديقة تزلج مجتمعية. كان حوالي 12 من ممارسي ركوب للأمواج يجدفون بألواحهم نحو نقطة الانكسار الموجي لركب أمواج ذات حجم مناسب، وكان هوغو كونتيراس يقف دون ارتداء قميص على الشاطئ، وهو رجل عشريني، يحمل كاميرا بعدسة طويلة، وكان يلتقط الصور لراكبي الأمواج. إذ سيعرض عليهم في وقت لاحق، بيع سلسلة من أفضل اللقطات لهم مقابل 20 دولاراً تقريباً. وأخبرني كونتيراس، أنَّ راكبي الأمواج يسألونه أحياناً عمَّا إذا كان سيقبل الدفع بعملة "بتكوين". ويقول، إنَّه قد قبل بذلك في بعض الحالات، لكن الانخفاضات في الأسعار أضرَّت به بشدَّة، ثم قال لي: "الآن، سأقول لهم، إنَّهم إذا أرادوا الدفع بعملة "بتكوين"؛ فإنَّ السعر سيكون 25 دولاراً". وتابع: "لا تعرف متى ستنخفض".