مع اقتراب زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للعراق والمقررة بعد شهر رمضان وقبل نهاية نيسان/ إبريل، كشفت صحيفة "يني شفق" المقربة من السلطات التركية ملامح مبادرة لتعزيز التعاون العسكري بين البلدين ، تقضي بإنشاء مركز عمليات عسكرية مشتركة بين البلدين من أجل تأمين الحدود وتطهير المنطقة من "الإرهاب".
ووفقا للصحيفة يزور يشار جولر وزير الدفاع التركي العراق خلال أيام لبحث خطوات التنسيق الأمني والعسكري، ومن أجل التحضير لزيارة أردوغان، واستعراض الخطوات التي يمكن اتخاذها معاً بين البلدين، لا سيما التعاون الاستخباراتي والدعم اللوجستي أو التدريب.
ومن المقرر أن يجتمع وفدان حكوميان من البلدين لتحديد المناطق التي يتمركز فيها تنظيم حزب العمال الكردستاني شمال العراق، ومن المخطط اختيار منطقة آمنة يمكن من خلالها التحكم في العملية العسكرية، والتي خصصت لإنشاء مركز العمليات المشتركة بين البلدين، ومن ثمّ وضع خطة تعاون عسكري "لتطهير المنطقة" من التنظيم وتحييده. على أن تكون الأولوية لمناطق تمركزه بمناطق قنديل وسنجار ومخمور والسليمانية وغارا بشمال العراق.
أربع ملفات شائكة
تحركات المسؤولين الأتراك وزيارتهم المتوالية للعراق ساهمت في تحريك المياه الراكده للعلاقات بين البلدين، وهي بمثابة خطوات تمهيدية لزيارة أردوغان المرتقبة إلى بغداد، وستحدد أجندة العمل بين الجانبين، ومن هنا تتضح أربعة ملفات أساسية في مسار العلاقات العراقية التركية الراهنة وهي: ملف حزب العمال الكردستاني وضرورة العمل المشترك بين البلدين لهزيمته؛ وملف مشروع "طريق التنمية، والذي يضع العراق على خريطة التجارة العالمية مجددا، وملف المياه، وملف تصدير النفط عبر الأنبوب العراقي-التركي. ومن شأن ضبط هذه الملفات أن يوفر فرصة جيدة لإعادة صياغة العلاقات التركية-العراقية على مبدأ الكل رابح، ويُعيد وضع علاقاتهما على المسار الصحيح.
مشكلة المياه
من القضايا الشائكة بين البلدين مشكلة المياه ، حيث تعتبر المياه مورداً استراتيجيًا للعراق وتركيا على حد سواء. يعتبر نهر الفرات مصدرًا رئيسيًا للمياه في المنطقة، ويعتمد العراق بشكل كبير على تدفقه لري الأراضي الزراعية وتوفير المياه العذبة للاستخدام البشري.
يواجه العراق منذ سنوات أزمة جفاف حادة تسببت بخروج مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية من الخدمة، وتواجه تركيا نفسها نقصاً في الموارد المائية في بعض المناطق، تصبح قضية الحصص المائية للبلدين (إلى جانب سورية) في مياه دجلة والفرات أكثر خطورةً، وذات تأثير طويل المدى.
تعود المشكلة إلى قضية سدود على نهر الفرات أقامتها تركيا، والتي تؤثر على توزيع المياه واستخدامها في العراق. منها سد "إليسو" وسد "أتاتورك" وسد "كيسلي كايا"، وهذه السدود تقلل من تدفق المياه إلى العراق وتؤثر على الإمداد المائي للبلاد.
وتشير التقديرات إلى أنّ حصة العراق قد تراجعت من حوالي 73 مليار متر مكعب عام 2003 إلى 50 مليار متر مكعب عام 2020، بسبب عملية ملء السدود التركية، ومن المحتمل أن تتراجع في السنوات المقبلة بنسبة أكبر إذا استمرت خطط الاستغلال التركية للمياه على حالها.
وتُلقي تركيا باللوم على سوء استخدام العراق لموارده المائية، وعدم تحديث نظم الري، وتؤكد أن إدارتها لملف المياه تستجيب لحاجة الاقتصاد المحلي، وللقوانين الدولية. وقد أصبحت هذه القضية حاضرة في معظم اللقاءات بين الطرفين، وأخذت تدريجياً تأخذ منحى سياسياً يؤثر ويتأثر بالملفات الأخرى.
تحاول كلا الدولتين إجراء محادثات ومفاوضات للتوصل إلى اتفاقيات تنظم استخدام وتوزيع المياه بشكل عادل. وقد تم توقيع اتفاقية بين تركيا والعراق وسوريا عام 2014 تسمى "اتفاقية إطار للنهر الفرات"، وتهدف إلى تعزيز التعاون في إدارة وتوزيع المياه بين الدول الثلاث وتقديم حلول للقضايا المتعلقة بالمياه. مع ذلك، لا تزال المشكلة قائمة وتتطلب جهوداً مستمرة للتوصل إلى حلول مستدامة تلبي احتياجات كل الأطراف المعنية وتحافظ على استدامة الموارد المائية في المنطقة.
حزب العمال الكردستاني
يشترك العراق مع تركيا في ضرورة مواجهة التحديات الأمنية، بما في ذلك مكافحة الإرهاب والتطرف، ورغم ذلك، تتأثر العلاقات بين البلدين أحيانا بسبب الطريقة في معالجة هذه التحديات، وأبرز الأمثلة على ذلك القضايا المتعلقة بالأكراد في المناطق الحدودية بين البلدين، والتدخل العملياتي التركي في هذه المناطق التابعة للعراق لمكافحة "الإرهاب" دون سابق إنذار.
في زيارته الأخيرة للعراق، طالب وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الحكومة العراقية بتصنيف حزب العمال الكردستاني PKK رسمياً منظمة إرهابية، وهو ما وصفه مراقبون بمحاولة إجبار بغداد على اتخاذ موقف أكثر وضوحاً من هذه القضية.
وتراقب تركيا تعامل الحكومة العراقية مع جماعات المعارضة لإيران في كردستان العراق، وتدرك أبعاد الاتفاق الأمني بين طهران وبغداد بهذا الصدد، وتعهُّد بغداد بنزع سلاح تلك الحماعات، وهو مايعزز مطالب أنقرة بأن تتخذ بغداد موقفاً مشابهاً معها فيما يتعلق بمحاربة حزب العمال الكردستاني باعتباره تنظيما ارهابيا يهدد أمنها.
وتتباين مواقف الأطراف الكردية العراقية من حزب العمال الكردستاني وهو مايزيد الأمر تعقيدا، فبينما يميل "الحزب الديمقراطي الكردستاني" الحاكم في أربيل ودهوك إلى مسايرة الحكومة التركية ومطاردة تنظيم PKK وتضييق الخناق عليه، فإنّ "الاتحاد الوطني الكردستاني" المهيمن في السليمانية يرتبط بعلاقات جيدة معه، وتتهمه تركيا بتوفير ملاذ آمن لعناصر التنظيم، وقد وصل التوتر بينها و"الاتحاد الوطني الكردستاني" إلى حد اتخاذ أنقرة في نيسان/أبريل الماضي قراراً بإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات التي تقلع من السليمانية، وظلّ الإغلاق قائماً على رغم المطالبات المتكررة بإعادة فتح المجال الجوي.
النفوذ الايراني
تسعى تركيا إلى التعاون مع الحكومة العراقية المنتخبة ديمقراطيًا، بغض النظر عن الانتماء الديني لها، وتدعم استقرار ووحدة العراق كدولة متعددة الأعراق والأديان، كما تدرك خطورة النفوذ الإيراني في العراق كتهديد للتوازن والأمن الإقليمي، وعبرت بشكل متكرر عن قلقها بشأن الجماعات الموالية لإيران وتأثير ذلك على الشؤون الداخلية للعراق.
وتعمل أنقرة على بناء علاقات وثيقة مع العناصر السنية في العراق، وخاصةً القوى السياسية والعسكرية التي تتصدى للنفوذ الشيعي، وتعتبر تركيا أن الوحدة الوطنية والتضامن الوطني في العراق هي الطريقة المُثلى لمواجهة التحديات الأمنية والسياسية.
بشكل عام، يتمثل موقف تركيا من التهديد الشيعي في العراق في التوازن بين تعبير القلق بشأن التأثير الإيراني وبين السعي للتعاون مع العناصر الوطنية العراقية لتعزيز الاستقرار والوحدة الوطنية في البلاد. وعلى الجانب العراقي ، فإن رغبة حكومة السوداني لتطوير البنية التحتية للبلاد، وتدشين مشاريع تنمية اقتصادية كبرى، وحل المشاكل الأمنية، يتطلب منها التعامل باهتمام مع المطالب التركية والعمل بجدية أكبر للوصول إلى تسويات مع أنقرة، ويحسب للسوداني نجاحه – حتى الآن – في اتخاذ موقف متوازن بين الأطراف العراقية المختلفة والمعنية بملف العلاقات مع تركيا، وبشكل خاص إقليم كردستان والفصائل الموالية لطهران.
على طريق "التنمية"
يحظى مشروع "طريق التنمية" الذي تُرّوج له تركيا بمباركة عراقية كاملة، إلّا أنّه يتفاعل مع ملفات أخرى، وخاصة التجارة بين الطرفين، وأعلنت تركيا رسميا دعمها للمشروع، ولكن لايوجد اتفاق واضح بخصوص تنفيذ المشروع حتى الآن، خصوصاً فيما يتعلق بنقاط الخلاف بين الجانبين فيما يتعلق بالمطلب العراقي بأن يدخل الطريق الأراضي التركية من نقطة فيشخابور، وأن لا يمر عبر أراضي إقليم كردستان.
ووفقا لمراقبين يعترض الجانب الكردي على محاولة بغداد استثناء الإقليم من مسار الطريق، وبالتالي فتح منفذ للتواصل البري المباشر مع تركيا، وهو أمر قد يضعف القيمة الجيوسياسية للإقليم، كما يضر بدوره التجاري مع تركيا.
ويحاول الجانب التركي تجنُّب هذه الإشكالية الناتجة عن خلافات إقليم كردستان وبغداد بخصوص مسار الطريق، وأكد رئيس وزراء إقليم كردستان، مسرور بارزاني، عند لقاءه وزيري الخارجية والطاقة التركيين، بأن يجري تنفيذ المشروع بموافقة إقليم كردستان والتعاون معه.
ووفقا لآخر الإحصائيات فإن حجم الصادرات التركية إلى العراق وصل 14 مليار دولار عام 2022، مع وجود طموحات تركية لزيادة هذ الحجم، وتسعى تركيا إلى ربط موقفها من "طريق التنمية" بإمكانية الحصول على المزيد من الامتيازات التجارية والاستثمارية في العراق، وسيكون طريق التنمية بابا لتخصوصاً أنّها تواجه منافسة من إيران والصين في السوق العراقية، مع دخول تدريجي لدول الخليج العربية في هذه السوق.
أردوغان والصفقة الكبرى
من المعروف في الدبلوماسية التركية أن زيارات أردوغان الخارجية تدشين للصفقات الكبرى، وهو ما يعزز سيناريو رابح-رابح ويعني تبني الحكومة العراقية موقفاً أكثر تشدداً تجاه نشاط حزب العمال الكردستاني في الأراضي العراقية، والعمل العسكري المشترك مع الجانب التركي للإجهاز عليه في مناطق سيطرته على الأراضي العراقية، ولو كان ثمن ذلك إقناع الفرقاء العراقيين بمنافع هذه الصفقة، والتوصل إلى تسويات مع إقليم كردستان والحزبين الرئيسيين فيه من جهة، والفصائل المقربة من طهران من جهة أخرى.
مع اقتراب زيارة اردوغان لم يعد الهروب من هذه الملفات الإشكالية هو الخيار الأمثل للطرفين، نظراً لحاجة الحكومة التركية في فترة اردوغان الرئاسية الجديدة لجوٍ إقليمي إيجابي، ما يعني "صفر مشاكل"، خصوصاً مع المصاعب التي تكتنف التطبيع مع دمشق حاليا، ما يجعل العلاقات مع بغداد ضرورية لتأمين الحدود الممتدة معها، إضافة لما تحمله هذه العلاقات من منافع اقتصادية وتجارية لكلا البلدين تبدو واضحة عبر طريق التنمية.