مع مطلع العام الحالي 2024 اتخذت المواجهة بين إيران وإسرائيل مساراً مختلفاً عما يوصف بقواعد الاشتباك التي حكمت العلاقة بينهما على مدى العقد الماضي، بخاصة في ظل تزايد النفوذ والوجود الإيراني على الأراضي السورية تحت عنوان مستشارين عسكريين لمساعدة النظام في التعامل مع الحرب الداخلية التي اندلعت ربيع عام 2011.
النظام الإيراني لا ينكر، بل يصرح بشكل واضح بالأهمية الإستراتيجية التي تحتلها الجغرافيا السورية في مشروعه الإقليمي، وأن دمشق تشكل "رأس الجسر" باتجاه الحدود الفلسطينية مع إسرائيل التي تعتبرها طهران ونظامها تملك مشروعاً إقليمياً منافساً لها، وبالتالي فإن الوجود في الجغرافيا السورية يعتبر خط دفاع أول وأساس عن مشروع طهران ونفوذها الإقليمي، وحتى في الدفاع عن النظام واستقراره ووجوده.
ما قامت به حركة "حماس" في هجومها على مستوطنات غلاف غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 فرض على القيادة الإسرائيلية رفع مستوى المواجهة مع النظام الإيراني الذي يتحمل بحسب نظر هذه القيادة المسؤولية المباشرة المادية والمعنوية عن عملية "حماس"، وبالتالي كان لا بد من حصول نقلة نوعية في هذه المواجهة، وفتحها على عمليات استهداف واغتيال نوعية وموجعة تسهم في تحقيق الهدف الإسرائيلي بتفكيك وضرب القيادة الإيرانية المسؤولة عما يجري على حدودها الشمالية مع لبنان والجنوبية مع غزة.
نوعية العمليات التي قامت بها إسرائيل والاغتيالات التي قامت بها على الأراضي السورية خلال الشهرين الأخيرين تكشف بشكل واضح أن تل أبيب ترصد بدقة عالية التركيبة العسكرية ومفاتيح القرار في هرمية القرار المتعلق بالمحور الذي تقوده طهران إقليمياً، وأن الاستهداف الذي قامت به واشنطن مطلع عام 2020 لقائد قوة القدس قاسم سليماني لا بد من أن يستكمل من خلال استهداف الفريق الذي يتولى الإشراف على استمرارية الأنشطة الإيرانية والتخطيط الذي يقوم به مع القوى المتحالفة أو الموالية لإيران، وتحديداً "حزب الله" اللبناني والفصائل الفلسطينية.
العملية التي استهدفت المسؤول اللوجستي الأقدم في قوة القدس الجنرال رضي الموسوي كانت بمثابة جرس الإنذار للجهاز الإيراني وحلفائه، بخاصة على الأراضي السورية، إلا أن العملية التالية التي قتل فيها المسؤول الأمني لقوة القدس في سوريا والعراق "الحاج صادق" اميدزاده أو اميدوار ومساعده، دفعت الجهاز الإيراني إلى اتباع آليات أمنية مختلفة بعد أن أدرك حجم الاختراق وتسرب المعلومات.
وجود الضباط الإيرانيين أو قادة قوة القدس في سوريا ولبنان داخل مبنى القنصلية الإيرانية، باعتباره تحت حماية القانون الدولي الذي يجعله جزءاً من السيادة الإيرانية، من المحتمل أن يكون في إطار الإجراءات الأمنية الجديدة التي اتخذتها هذه القوة لتخفيف الاستهدافات الإسرائيلية المتوالية، إلا أن حجم التحدي الذي تواجهه إسرائيل وتراجع قوة الردع التي تمتلكها والانتقادات التي تتعرض لها جراء ما تقوم به في غزة، دفع قيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى إسقاط كل الاعتبارات الدولية وأن يذهب إلى خرق قواعد الاشتباك المعمول بها في الضربات المتبادلة بينه وبين الجانب الإيراني.
استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، حتى وإن لم يؤد إلى سقوط خسائر بشرية من الدبلوماسيين أو الموجودين في داخلها، يضع إيران أمام تحدي الدفاع عن سيادتها التي تعرضت لاعتداء واضح ومباشر، فضلاً عن الصفعة القاسية التي لحقت بمؤسساتها العسكرية والأمنية، ووضعت دور "قوة القدس" على هذه الجغرافيا الإستراتيجية في دائرة الخطر الحقيقي، وهذا الاستهداف يحتم على النظام الإيراني أن يخرج من الموقف الروتيني الذي دأب على اعتماده في الاستهدافات السابقة، وأنه يحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين.
حتمية الرد الإيراني تحولت إلى مسألة قيمية واعتبارية للنظام وقوة ردعه، لأن العمليات الإسرائيلية السابقة كانت على أرض البلد المضيف وفي مقار ومواقع أمنية لا تحمل صفة سيادية أو دبلوماسية، حتى وإن كان المستهدف دبلوماسياً كما هي الحال في اغتيال قاسم سليماني ومن بعد رضى الموسوي، في حين أن عمليات الاغتيال التي جرت داخل إيران واستهدفت علماء البرنامج النووي، وتحديداً محسن فخري زادة، لم تخرج عن دائرة صراع الأجهزة والاتهامات.
النظام الإيراني في حاجة إلى هذا الرد لاعتبارات ترتبط بصدقيته وجديته في الالتزام بالشعارات التي يرفعها، والتي تشكل البعد العقائدي للجماعات التي تشكل أقطاب المحور الذي يقوده في الإقليم، بخاصة في ظل حجم الخسائر التي لحقت بقطاع غزة من جهة، والمواجهة التي يقودها "حزب الله" في جنوب لبنان والتي كلفته كثيراً، وقد تحمّل هذا الحزب عبء الرد المبدئي عن عملية اغتيال الموسوي والحاج صادق، وأراح الجانب الإيراني من تحمل المسؤولية عن ذلك، وبالتالي فإن رد الحليف لن يكون مسوغاً لدى قواعد الحليف أو على المستوى الإقليمي والدولي.
والحاجة الإيرانية للمبادرة إلى الرد، التي تحدث عنها المرشد الأعلى وأن إيران ستوجه ضربة لإسرائيل تجعلها تندم على فعلتها، والمواقف التالية لعدد من المسؤولين في الدولة والنظام، ترتبط بكل المشروع الإقليمي لإيران في المنطقة، فالسكوت عن الاعتداء على سيادتها قد يفتح الباب أمام الإسرائيلي وغيره للقيام بعمليات استهداف علنية داخل الأراضي أو الجغرافيا الإيرانية مستغلاً تراخي موقف النظام.
ومن الأسباب التي تفرض على طهران الرد المباشر ما يرتبط بصدقية الصورة التي تحاول تكريسها من خلال طرحها مشروع الأمن الإقليمي وطموحها إلى قيادة هذه المنظومة باعتبارها القوة الأكبر والأقدر على المواجهة، وبالتالي فهي مجبرة على الدفاع عن طموحاتها في قيادة الإقليم، وفي الأقل داخل المساحة الأقرب إليها فوق مياه الخليج وصولاً إلى مداخل البحر الأحمر في باب المندب.
لا شك في أن الاتصالات غير المباشرة بين طهران وواشنطن قد نشطت خلال الساعات التالية لعملية استهداف القنصلية في دمشق، وفي ظل حرص الطرفين الإيراني والأميركي على عدم توسيع دائرة الحرب نحو الإقليم، فقد تدفع الطرفين إلى التوصل إلى تفاهمات وتسويات بحيث تستطع إيران الرد على هذا الاستهداف من دون أن يتطور، أو السماح له بالتطور نحو حرب شاملة قد تحقق ما يرغب فيه نتنياهو من توريط لواشنطن وطهران فيها مباشرة.
اندبندنت عربية