تثبت التطورات السياسية والوقائع العملية، المتدحرجة كل يوم، أن لبنان الدولة والمجتمع والقادة، ماض من تدهور إلى آخر، من دون توقف أو استراحة للتفكر والتفكير أو التأمل. وكلما ازداد الصراخ والعويل وعلت الأناشيد والصرخات الحماسية للمطالبة بالإنقاذ، تبين أن الذي جرى هو مزيد من التدهور والتراجع.
فمنذ جريمة قتل المسؤول في القوات اللبنانية، باسكال سليمان، تحول الاهتمام السياسي والإعلامي في البلاد وبدفع أساسي من القوات اللبنانية والأحزاب الملتفة حولها، أي الكتائب والأحرار، نحو مسألة ومعضلة النزوح السوري وضرورة الخلاص منه ومعالجته، بأي طريقة وبشكل فوري.
فيما معضلة تعطّل الدولة "المأكول رأسها" والنظام المتهالك لا تزال ماثلة ومستعصية ومتفاقمة.
والحقيقة، إن مشكلة النزوح السوري ليست قضية عابرة، أو بسيطة بل هي مسألة مصيرية، لا يمكن تجاوزها أو السكوت عنها. وهي مسألة تطال جميع اللبنانيين بأبعادها كافة. وقد وصلت درجة الاهتمام بهذه المعضلة، إلى تناسي كل المشكلات في البلاد والتركيز على هذه المشكلة حصراً من دون غيرها.
إذ أن المتابع لوسائل الإعلام ونشرات الأخبار، التي تمون عليها هذه الأحزاب والقوى السياسية، يكاد يتصور أو يتخيل أن النازحين السوريين يطرقون الأبواب لاحتلال منازل اللبنانيين.
وصل أمر الانغماس في الانصراف إلى مسألة النازحين السوريين، أن الطرفين اللدودين، القوات والتيار الوطني الحر، قد تركا كل اهتماماتهما وخلافاتهما للاجتماع لمواجهة قضية النزوح السوري، عبر مؤتمر مشترك للبلديات في البترون. فما فرقته الخلافات السياسية الماضية، وهي كثيرة ومتعددة، جمعته زيادة أعداد النازحين وتفاقم مشكلاتهم.
لكن في الوقت عينه، تُركت بقية المشكلات على حالها. وقد تناست هذه القوى السياسية أن المعضلة الأساسية التي عطلت النظام السياسي اللبناني، ومنعت مؤسساته من التصدي لهذه المشكلة بوضوح وقوة من البداية، هي نفسها التي تعطل الآن الحلول لأزمة النزوح السوري.
فمع اندلاع الأزمة في سوريا وبدء تهجير قسم من السوريين نحو لبنان ودول الجوار، وفي عهد حكومة الرئيس ميقاتي، تكاتفت القوى المساندة والقريبة من النظام السوري لتجاهل المشكلة وعدم التصدي لها من قبل مؤسسات الدولة.
ولا يمكن نسيان المواقف المتعددة التي كانت تقول وتعلن بصراحة وترفض الاعتراف أن في سوريا مجرد مشكلة ولو صغيرة أو ثورة وليدة، فكان الجواب الذي يتصدر النقاشات والطروحات لإيجاد حلول بالقول: لا مشكلة في سوريا وكل الأمور طبيعية، وهناك مصلحة للمتآمرين في تضخيم أزمة غير موجودة. وكثر يتذكرون أحاديث سياسيين كانوا يتبارون في إظهار أن لا مشكلة أو أزمة في سوريا، بل الإصرار على الانكار، وأن الأوضاع طبيعية ولا حاجة لاتخاذ إجراءات لمواجهة أعباء النزوح ومشكلاته.
وقد مُنعت الدولة اللبنانية بفعل الترهيب السياسي والإعلامي الحليف للنظام السوري، من إقامة مخيمات إيواء منظمة أو اتخاذ أي إجراءات سليمة وطبيعية وضرورية مطلوبة في مثل هذه الحال.
عملياً، نجح حلفاء سوريا في منع الدولة اللبنانية في أن تتخذ أي إجراء لتنظيم ومواجهة النزوح السوري إلى لبنان. وذلك بهدف حجب أي اثارة لموضوع النزوح، تحت يافطة أن الأوضاع في سوريا طبيعية والنظام قوي ومتماسك ومسيطر على الأوضاع، ولا مشكلة فعلية فيها، وكل ما كان يقال عن انتفاضات وثورات تواجه النظام هو افتعال إعلامي وسياسي غربي لا أساس حقيقياً له!
الرئيس نجيب ميقاتي الذي تلقى الآن كل التهجمات والانتقادات بخصوص الهبة الأوروبية، وسبل التعاطي مع أزمة النزوح، تلقى يومها كل الضغوط لمنع حكومته من تنفيذ أية خطوة لمواجهة أعباء ومشكلات النزوح المتدحرج آنذاك. والذي كان يكبر ويكبر في لبنان. ولهذه الخلفيات والأسباب، تقاعست أجهزة الدولة وتراجعت حتى عن تسجيل قيود دخول النازحين إلى لبنان.
بمعنى اخر، إن القوى السياسية التي عطلت النظام السياسي ومؤسساته في لبنان عبر منع تطبيق الدستور وسيادة منطق القوانين والمؤسسات من العمل سابقاً، لمواجهة النزوح وموجاته، هي نفسها بطريقة أو بأخرى تعطل الآن إمكانية اتخاذ إجراءات جدية تجاه مشكلة النزوح المتفاقمة.
قبل انعقاد جلسة مجلس النواب لمناقشة مشكلة النزوح والأزمة المتفاقمة، وإقرار توصيات لمعالجة هذه الكارثة الوطنية، تحدث أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله مطولاً، مقترحاً بشكل صريح أن تقدم الدولة اللبنانية على الدفع بالنازحين السوريين نحو أوروبا عبر البحار، تماماً كما اقترح جبران باسيل تشبهاً بأفعال الدولة التركية، التي سبق أن فتحت حدودها البرية أمام النازحين لناحية أوروبا من بوابة اليونان.
عملياً، إن اقتراح نصرالله ومن بعده باسيل، يعتبر بمثابة تحول كبير باتجاه تبديل دور لبنان من تصدير الحرف والثقافة والترفيه إلى تطوير التجربة الصومالية واليمنية في السيطرة على البحار وإشغالها وإغراقها بالفوضى والتخبط.
بل إن ما كشف عنه السيد نصرالله في خطابه الأخير، يدفع باتجاه تبديل دور لبنان الطامح إلى لعب دور سويسرا الشرق والتحول نحو العمل لمصلحة سوريا واستخدامه لرفع سيف العقوبات عنها.
يقول هذا المنطق أو هذا التوجه المستجد، كما أوضحه السيد نصرالله في خطابه الأخير، كاشفاً بالقول: "إنني ذهبت إلى الرئيس السوري بشار الأسد وشجعت عودة النازحين إلى القُصير لكن الجمعيات الممولة من الأوروبيين كانت تمنعهم".
لافتاً إلى أنه "يجب مساعدة سوريا لتهيئة الوضع أمام عودة النازحين، وأولها إزالة العقوبات عنها، ويجب التواصل مع الحكومة السورية بشكل رسمي من قبل الحكومة اللبنانية لفتح الأبواب أمام عودة النازحين".
الأمر لم يقتصر على دعوة السيد نصرالله للعمل على رفع العقوبات عن سوريا فقط، بل سرعان ما ظهر أن هناك توجهاً عاماً لتنفيذ هذه المهمة. وهذا ما تبناه وطالب به وكرره أيضاً النائب طوني فرنجية، الذي تحدث بدوره عن ضرورة رفع العقوبات عن سوريا، وقال: "من مصلحة لبنان أن يساهم أو يتوسط إن تمكّن لرفع العقوبات عن سوريا، فرفع هذه العقوبات يعود بالخير على لبنان على أكثر من صعيد".
ورأى أن "الحل السياسي لملف النزوح يكون في التعاطي مع الحكومة السورية والحل الدولي يكون برفع العقوبات"، مضيفاً "الحياة وقفة عز. لذلك نقول إن كانت الهبات تهدف إلى إبقاء النازحين في لبنان فنحن نرفضها ولا نريدها"!
إذاً، كلمة السر والمهمة المطلوبة والمقبلة من لبنان من الآن وصاعداً يا سادة، بحسب نصرالله وفرنجية، هي العمل لرفع العقوبات عن سوريا، لكي تتمكن من تلقي المساعدات الممنوعة. وهذا ما يسهل عودة النازحين إلى بلادهم بدل البقاء في لبنان!
ترى أية توصية سيتم اعتمادها وتنفيذها؟ ما صدر عن النواب أم ما يصدر عن السيد ومن معه؟
المدن