ظللنا نلوك عبارة العمل العربي المشترك لعقود عدة، وعلى رغم أن هناك منعطفات تاريخية بدا العمل العربي فيها مشتركاً بالفعل محققاً إنجازات ملموسة عندما تضافرت جهود دول القتال مع جهود دول النفط حتى تشكل من الإطار الكلي نسيج قوي يعبر عن روح العمل العربي المشترك في أفضل صوره.
وقد جرى ذلك بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 حيث وقفت الدول النفطية بقيادة السعودية موقفاً حاسماً تغيرت به حينها خريطة العالم وليس مجرد خريطة المنطقة فحسب، فالحظر البترولي من دول الخليج الذي قادته السعودية بقيادة ملكها الراحل الملك فيصل بن عبدالعزيز قد أدى في النهاية إلى ضغط هائل على الدول الغربية، وكنت وقتها طالب دكتوراه في جامعة لندن وشهدت ذلك التأثير الذي بدا واضحاً في ارتفاع الأسعار على نحو غير مسبوق، وأدى إلى فزع حقيقي في المجتمعات الغربية حتى إن داهية الدبلوماسية الأميركية وأعني به هنري كيسنجر قد رفع شعاره الشهير (food for crude) وما تبع ذلك من تحول اقتصادي عالمي وارتفاع جنوني في الأسعار لا تزال أصداؤه قائمة حتى اليوم.
لا أظن أن العمل العربي المشترك قد وصل إلى مرحلة تقترب من ذلك التضامن القومي القوي الذي عرفته المنطقة في أعقاب تلك الحرب الظافرة، ولو نظرنا إلى الساحة حولنا لوجدنا أن المشهد مختلف وأن البيئة قد تغيرت وأن المناخ العروبي لم يعد يتمتع بما تمتع به من قبل من صلابة وتماسك وقدرة على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب. ولعلنا نطرح الملاحظات التالية حول طبيعة العمل العربي المشترك وأهمها:
أولاً: إن التركيز على الدولة الوطنية قد أدى بالضرورة إلى مزيد من الاهتمام بالهوية القطرية، واعتبار الدول العربية في مجملها تبحث عن المصالح الخاصة لكل منها في إطارها المحلي الذي قد لا يؤدي بالضرورة إلى الاتساق الكامل أو التناغم المنضبط الذي يتجاوب مع المصالح المحلية لكل دولة، دعونا نعترف أن الشعارات العامة لم تعد تؤتي أكلها وتعطي ثمارها في ظل أجواء مختلفة وعالم متغير.
ثانياً: إن الاستهداف الأجنبي للقرار العربي المنفرد أو المشترك لم يعد يترك مساحة لغير الراغبين في التعامل مع تلك القوى الأجنبية وضغوطها الخارجية، وليس سراً أن نقول إن هناك قوى تحرك تلك الأصابع الأجنبية بانتظام لا يقف عند حد ولا ينتهي مع مرحلة معينة، فالغرب على ضفتي المحيط الأطلسي ما زال يقامر بالمصالح العربية ويسعى جاهداً لترسيخ نفوذه في المنطقة. فالأطماع الأجنبية مستمرة في مصادر الطاقة والمياه والأراضي العربية، وكلها مصادر هامة للبقاء حيث نعيش حالياً مرحلة حرجة في المواجهة التاريخية بين الشرق والغرب، وهو ما أبرز تعبيرات دبلوماسية جديدة مغايرة لما كان سائداً من قبل مثل الدفاع عن السامية أو المعاناة على الجانب الآخر من مجمل التعبير الظالم بعنوان (الإسلاموفوبيا).
ثالثاً: إن الذي شهدناه في السنوات الأخيرة كان ولا يزال متأثراً إلى حد كبير بروح التجديد بين أجيال من المتعلمين بعد موجات الابتعاث من بعض دول الخليج وفي مقدمتها السعودية، حيث نلاحظ أن الكوادر الجديدة بدأت تمضي باتجاه للتحديث والعصرنة وتلك نتيجة لا ننكرها بل نعتز بها ونزهو. ولكن الأمر الذي لا جدال فيه يكمن في محاولات الفصل بين التقدم التكنولوجي والانتماء الأيديولوجي وكأنما هناك من يحاول الفصل بين محاولات التحديث في جانب وعمق الانتماء الروحي في جانب آخر، وهو أمر يبدو معقداً للغاية وكأنما الحداثة لا تستقيم مع العقائد الدينية ولا تمضي التوجهات المستقبلية مع التراث التاريخي والأفكار الموروثة والنظرات السائدة.
رابعاً: إن الصراعات الجديدة قد بدأت تتخذ أساليب متنوعة من دولة لأخرى، فتلك يمكن التضييق عليها في منابع النهر مثلما هو الأمر بالنسبة لسد النهضة الإثيوبي وتأثيره في تدفق مياه النيل عبر الوادي الذي يجري فيه منذ آلاف السنين، وهناك أيضاً ما هو عدوان على الهوية بزحف دول جنوب الصحراء الأفريقية على شمالها تحت تسميات الهجرة، وهنا تبرز الحساسيات ونتساءل كيف حال الدولة الليبية الشاسعة؟ وما هو مستقبل السودان في ظل الظروف الطارئة والأحوال المضطربة الحالية على امتداد الخريطة القومية؟ ولا شك أن المسعى الكبير الذي بذلته أقطار عربية يمكن أن يكون وهماً إذا تمكنت التيارات المعادية للإصلاح والتنمية من أن تقهر إرادة الشعوب مرة أخرى وتسيطر على مقدراتها كما لم تفعل من قبل.
خامساً: إن وجود دولة إسرائيل في المنطقة العربية له دلالته وخطورته في الوقت ذاته، فلو أننا تخيلنا المنطقة من دون قيام الدولة العبرية التي تعتمد على دعاوى تاريخية ودينية على رغم أنها لم تمر بالسياق والمراحل التي عبرت عليها دول أخرى في المنطقة منذ النشأة حتى اليوم، وحينها سنكتشف على الفور أن قيام دولة إسرائيل هو أخطر حدث جرى على الساحة في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وسندرك أيضاً أن إسرائيل دولة تقوم على فكرة عنصرية وعقيدة دينية ولكنها لا تتطلع إلى الاندماج الحقيقي والتعايش المشترك مع دول الجوار وتلك نقطة مهمة لأنها ببساطة تعني أن إسرائيل تريد أن تعيش في (غيتو) وسط محيط كبير من كيانات عربية ودول تملك مقومات قومية مشتركة لا تتفاعل معها إسرائيل بسهولة، وتلك مسألة معقدة تشير إلى غياب حالة التعايش المشترك الذي لا يبدو قريباً في الأفق بحال من الأحوال على رغم أن الظروف المحيطة في غرب آسيا وشمال أفريقيا توحي بإمكانية تحقيق ذلك، بل إنني أجازف وأقر أن ما جرى في غزة منذ السابع من أكتوبر عام 2023 حتى اليوم هو تعزيز لتلك النظرة التي ترى أن اشتداد أزمة معينة واحتدام المواجهة ينتج منه ما يمكن تسميته الوصول إلى لحظة الصدام لكي ينفرج، فتلك الأحداث في الأشهر الأخيرة أصبحت تلح على صناع القرار في العالم إلى ضرورة وجود حل جذري، وقد قالوا قديماً (اشتدي يا أزمة لتنفرجي)، وهكذا تيقن الجميع بما في ذلك اليهود أنفسهم أن أسلوب المواجهة العسكرية الدامية صباح مساء لن يقدم حلولاً منطقية يمكن أن تخدم السلام والأمن في المنطقة أو تمهد للتعايش المشترك. ولسنا نملك حلولاً سحرية لما تواجهه المنطقة ولكن الأمر الذي لا خلاف حوله هو أن السلام العادل حل نهائي مهما طال الزمن!
سادساً: إذا كانت إسرائيل تحتل الأرض فإن العرب يملكون كروتاً أخرى في المقابل، فالتطبيع مع إسرائيل أمر شديد الأهمية ورصيد عربي ضخم يعطي شعوراً بالقوة على الجانب الآخر، ويؤثر تأثيراً كبيراً على صورة المستقبل وطبيعة التعايش المحتمل عندما تسكت المدافع وتلوح في الأفق ملامح السلام الحقيقي.
سابعاً: إن العمل في ظل الشرعية الدولية قد أصبح يعطي آمالاً واسعة في ظل الأرضية التي اكتسبتها القضية الفلسطينية، خصوصاً في الأشهر الأخيرة، فضلاً عن بسالة التضحيات التي يقدمها الفلسطينيون رجالاً ونساءً وأطفالاً من أجل وطنهم، ونحن نظن أن العالم قد تغير وأصبح للفلسطينيين رصيد لدى كثير من دول العالم المعاصر، كما أن إسرائيل في المقابل قد خسرت الكثير من صورتها التي كانت تزهو بها وتصور فيها للجميع أنها ذلك الكيان المتفرد في الشرق الأوسط وأن جيرانها هم الذين يتربصون بها ويحاولون القضاء عليها، وتلك أكذوبة كبرى لم يعد لها وجود.
هذه بعض ملامح ما نرجوه من العمل العربي المسكوت عنه حول دروس الماضي ومنظور الحاضر ورؤية المستقبل.