ليس من مصلحة تونس ما يتم ترويجه بأن القضايا التي تثار ضد السياسيين هي أساسا لمنعهم من الترشح ومنافسة الرئيس قيس سعيد على الانتخابات. قد تكون الصورة عكس ذلك تماما، وأن ما يجري من توقيف وسجن ومحاكمات مرتبط بقضايا فعلية من مخلفات المرحلة السابقة، لكن المتابع الخارجي لا يقدر على فهم التلازم في التوقيت بين من قدموا ترشحهم للانتخابات وإثارة قضايا ضدهم.
سيبدو الأمر وكأن قيس سعيد يخشى أن يترشح بعض السياسيين المعارضين لينافسوه في الانتخابات، ويريد أن يزيحهم من طريقه من خلال سحب ملفات قديمة وإشهارها في وجوههم، هذا ما يقوله تأويل الصورة من الخارج. لكن على الأرض من الصعب أن يقدر أيّ كان ممن شملتهم القضايا سابقا أو لاحقا على منافسة قيس سعيد فعليا قياسا بمزاج الناس وموقفهم من المرحلة السابقة ورموزها وبالدعم الذي ما يزال يحصل عليه قيس سعيد من فئات واسعة من الناس، حتى وإن كان الحماس له قد تراجع وفق ما تشير إليه بعض استطلاعات الرأي.
من الضروري أن نتذكر أن هؤلاء الذين يقولون إن توقيفهم والمماطلة في محاكمتهم هدفه تفويت الفرصة عليهم للمشاركة في الانتخابات، سبق وأن جربوا حظوظهم في الترشح للرئاسة أو التشريعية وانتهوا بلا نتيجة تستحق.
في ما عدا من يتهم بالإرهاب أو سرقة المال العام، لماذا لا تقر هدنة انتخابية يترك فيها هؤلاء لتجربة حظوظهم مرة أخرى بنتائج شبه معروفة مقدما؟ على سبيل المثال، ما الذي يمكن أن يمثله لطفي المرايحي، رئيس حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري، من خطر على الانتخابات في ما لو شارك فيها ثم فتح في حقه لاحقا تحقيق في ما ينسب إليه من تهم.
لا أحد يطلب من السلطة أن تتخلى عن حقها، ولا من المعارضة أن تسكت أو تتراجع، لكن المطلوب هو تصريف الخلاف في قنوات هادئة، ومن بين هذه القنوات إجراء الانتخابات والحفاظ على مساحة جلية لحرية الرأي والتعبير
هل يمكن أن تمثل عبير موسي مشكلة لقيس سعيد في ما لو شاركت في الانتخابات وعملت حملة انتخابية وأطلقت العنان للنقد والانتقاد كما كانت تفعل في السابق؟ مهما عملت فمربع تحركها محدود حزبيا وشعبيا، وجزء من هذا المربع بات يدعم قيس سعيد ويرى أنه الأقدر على تحقيق ما كانت موسي نفسها تعمل لأجل تحقيقه خاصة موضوع الحد من تغلغل الإسلاميين وتفكيك اختراقهم لمؤسسات الدولة ومحاربة امتداداتهم الخارجية.
ما الذي يمكن أن يمثله صافي سعيد من تحدّ للرئيس سعيّد، أو عبداللطيف المكي أو منذر الزنايدي في ما لو شاركوا وعملوا حملة انتخابية ونقدوا وانتقدوا وقدموا أفكارا أو شعارات.
التحليل المنطقي يقول إن هؤلاء فرادى أو مجتمعين لا يقدرون على هزيمة قيس سعيد في الانتخابات حتى لو ترشح ممثل عنهم إلى الدور الثاني واتفقوا على التصويت له، وهذا لن يحدث لتناقض الخلفيات والأجندات بين المعارضة التي لم ترتق بعد، لا هي ولا أنصارها، إلى فكرة التكتلات الانتخابية على قاعدة الحد الأدنى المشترك وما تزال رهينة الأيديولوجيا.
لكن مشاركة هؤلاء السياسيين تضفي حيوية وحماسا واهتماما دوليا على الانتخابات وتعطيها مشروعية كبيرة تنعكس بالإيجاب على صورة تونس وصورة قيس سعيد شخصيا وتبدد الكثير من الشكوك والاتهامات التي تطاله من معارضين ومنظمات خارجية. المشاركة في الانتخابات تضع كلا في حجمه وتبدد الأوهام وتقطع الطريق على فوضى الكلام وخطاب المظلومية.
ربما سيضطر الرئيس سعيد لسماع الكثير من التهم والهجمات الشخصية في الحملة الانتخابية ويرى في ذلك تجنيا عليه وعلى صورته، لكن هذه ضريبة الديمقراطية والتعدد السياسي والحزبي وحرية الرأي، والناس سيميزون بين الصدق والتجني. والأفضل أن يقول السياسيون أفكارهم في العلن بدلا من أن يمرروها في السر وعلى مواقع التواصل التي تسيطر عليها الشعارات والأحقاد وتصفية الحسابات.
من مصلحة تونس ومصلحة قيس سعيد أن يمر في انتخابات التنافس قويا ومحاطا بالجدل والنقاشات على أن يفوز في مواجهة شخصيات محدودة التأثير تقر من البداية بأنها تشارك لأجل المشاركة. الفوز هو نفسه لكن الأدوات تختلف ونتائجها ستكون مغايرة على صورة تونس في الخارج.
يجعل الحماس أنصار قيس سعيد يقولون إن تقييم الخارج وموقفه ليسا مهمين، وإنه يكفي الرئيس التونسي شرفا أنه وضع رموز المنظومة السابقة في السجن دون تمييز إن كانوا مرشحين أو غير مرشحين، والقانون لا يهتم لمثل هذه التفاصيل.
لكن المشكلة أكبر من ذلك. ما يراه أنصار الرئيس سعيد زاوية تتجه إلى الداخل، ويمكن أن يجد صداه لدى الناس. لكن ليس بنفس الصدى الذي كان بعد 25 يوليو 2021 مباشرة. درجة الاهتمام تغيرت.
لا يتحمل الناس ذكر السياسيين الذين حكموا من قبل بسبب الأخطاء الكثيرة التي ارتكبوها، لكن التركيز الآن على الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما فهمه قيس سعيد نفسه وصار يهتم بالتفاصيل المباشرة المرتبطة بالحياة اليومية من نقل وخدمات صحية ووضع التعليم والطرقات والأجر الأدنى ووضع المتقاعدين.
من المهم الإشارة إلى أن مراقبة الخارج لوضع أيّ بلد لا تقف عند التقارير الإعلامية التي يمكن أن تكون موجهة، أو لا تسترضي السلطة وجمهورها لإثارة تفاصيل أو معطيات قديمة. الخارج ليس إعلاما فقط، هو رأي عام مهم في رسم الصورة عن أيّ بلد، وهو ما تنطلق منه المنظمات المالية والاقتصادية والسياحية وغيرها في وضع التصنيفات لأيّ بلد إيجابا أو سلبا.
هناك استسهال لدى الجمهور في استصدار الأحكام عادة من نوع “فليذهب الخارج إلى الجحيم”، أو أن البلد سيعتمد على النفس وبإمكانياته الذاتية دون حاجة إلى الخارج مع توصيفات كلاسيكية شعبوية بالهجوم على الإمبريالية وربط كل شيء بالمؤامرة والصهيونية.
الاعتماد على الذات مهم في رسم السياسات والتقشف ومحاربة الفساد وخلق مناخ إيجابي للاستثمار والسياحة، لكنه لا يلغي دور الخارج في بلد رأسماله صورته واستقراره واعتداله وانفتاحه على الآخر
هذا كلام تطرب له العامة بما في ذلك جمهور الأحزاب الأيديولوجية، لكن الدولة تعرف أن لا طريق للتنمية من دون بناء علاقات خارجية وتعاون دولي. ونظرة بسيطة على الاتفاقيات الأخيرة لتونس ستجد أنها عملت اتفاقيات قروض مع جهات مالية واستثمارية مختلفة لإنقاذ الاقتصاد.
الاعتماد على الذات مهم في رسم السياسات والتقشف ومحاربة الفساد والبيروقراطية واللوبيات وخلق مناخ إيجابي للاستثمار والسياحة، لكنه لا يلغي دور الخارج في بلد رأسماله صورته واستقراره واعتداله وانفتاحه على الآخر، وهي أشياء متأسسة في تقاليد البلاد منذ عقود.
هل يمكن أن تدخل تونس الانتخابات الرئاسية في هذا المناخ المشحون بالتوتر وردات الفعل غير المحسوبة؟ ما هي الصورة التي ستنقلها وسائل إعلام ومنظمات أجنبية وضيوف وافدون من وراء الحدود سيراقبون الانتخابات لأسابيع؟ هل سيقولون إنها علامة صحية، أم هي مؤشر على عدم الاستقرار؟
ويعرف التونسيون مسبقا أن بعض الدوائر الخارجية تشتغل بالتضخيم وتحويل الأنظار و“جعل الحبة قبة” مثلما يقول المثل العامي، فلماذا يعطونها المبرر لتصور البلاد في غير ما يريده المسؤولون عنها.
من الضروري التنبيه إلى أن تكرار هذه المواجهات لأسباب مختلفة يستنزف سمعة تونس العالمية لأن الإعلام الغربي أو السياسي الأوروبي لا يرى إلا سلطة تضغط على أصحاب رأي مخالف. لن يفهم على أنه صراع بين قوى ردة ودولة حازمة وحاسمة، كما يقول نشطاء موالون للسلطة.
لا أحد يطلب من السلطة أن تتخلى عن حقها، ولا من المعارضة أن تسكت أو تتراجع، لكن المطلوب هو تصريف الخلاف في قنوات هادئة، ومن بين هذه القنوات إجراء الانتخابات والحفاظ على مساحة جلية لحرية الرأي والتعبير وترك هامش تحرك للجمعيات المدنية والحقوقية على أن يكون الجميع تحت رقابة القانون.