لا يمكن لعاقل أن يستعرض أوضاع لبنان بين الماضي والحاضر القريب، إلا أن يخرج بانطباع مفاده أن لبنان يتأرجح بين حالين لا ثالث لهما، إما إعادة استنهاض وإصلاح وتكوين شاملة، أو الذهاب إلى التفكك والاندثار. أو كما قال وزير خارجية فرنسا السابق، جان إيف لودريان: غياب وتلاشي لبنان السياسي بشكل كامل.
ليست سهلة أو بسيطة حالة التدهور الراهنة، والمستمرة منذ خمس سنوات على الأقل. أي منذ اندلاع وانفجار الأزمة المالية الاقتصادية، التي أسقطت أوراق التين والتوت وكشفت عورات الجمهورية المتهالكة، ووضعتها على طريق التفكك والاندثار والتلاشي، وقضت على ثروات وأموال ما أدخرته أجيال لبنان منذ أزمة بنك انترا 1966 إلى الأمس القريب.
وقد اتبعت الكارثة المالية والاقتصادية بكارثة أشد، تمثلت بانفجار مرفأ بيروت الذي لا يزال التحقيق فيه هائماً على وجهه.
والأخطر من كل ذلك، أن القوى السياسية التي شاركت في تدبير المذبحة المالية والاقتصادية المستمرة بحق لبنان وشعبه، لا تزال ماضية بالتصرفات نفسها والارتكابات ذاتها من دون حسيب أو رقيب. بل إنها تزداد شراسة، وبصيغة دقيقة ومحددة "استهتاراً" واستشراساً وتوحشاً تجاه الناس والمواطنين المنكوبين المتروكين لمصيرهم وحقوقهم المهدورة وأموالهم المسلوبة.
المدهش أن القصور والفشل، لا يطال القوى السياسية المسيطرة والمشاركة في المذبحة، التي ارتكبت بحق اللبنانيين. بل إن القصور يطال القوى التي يفترض أن تواجه وتنهض في البلاد، بل إن الخطير والمدهش، أن لبنان هو الآن بين أيدي طغمة من المتوحشين والمجرمين والمتورطين في الاختلاسات والسرقات، من دون أن يقف في وجههم أي رادع أو قوى تحاول التقاط الأنفاس والدفاع عن حقوقها.
فقد بلغ توحش القوى السياسية والطائفية المسيطرة، حد عدم السؤال أو التلفت نحو الضحايا.
مرد هذا الكلام الحاد الذي قد يكون مستغرباً لدى البعض، أن الكارثة المالية الاقتصادية التي حلت بلبنان واللبنانيين (تشرين الأول 2019) تقترب الآن من الذكرى الخامسة لوقوعها، ولم يتم إحداث أو ابتكار أو تحقيق أي خطوة إصلاحية جدية، بالرغم من حدوث انتخابات نيابية أبدلت قسماً كبيراً من المجلس النيابي، والذي لم يتمكن حتى الآن من إقرار أي قانون إصلاحي جدي، لمعالجة آثار المجزرة التي ارتكبت بحق اللبنانيين. بل إن الذي جرى ويجري هو محاولة مسح وإخفاء دماء الضحايا، التي تُركت لكي تنهش جثثها الضواري، أو لكي يشرب دمهم التراب، وبالتالي عدم ترك أي أثر لهم ولما جرى.
الكارثة الكبرى يشارك فيها الجميع من دون استثناء وكل بدوره.
مجلس النواب، المسؤول عن إصدار وإقرار القوانين الإصلاحية، اللازمة والضرورية لمعالجة الأزمة المالية الاقتصادية، ولكي لا تتكرر في المستقبل، لم يقم بأي جهد جدي، وهو أساساً عاجز عن القيام بمهمته الأساسية، أي انتخاب رئيس جديد للجمهورية، مكان المأسوف على رئاسته العماد ميشال عون، الذي أدخل البلاد في أتون جهنم، وأقفل عليها الباب المسلح والمحكم الإغلاق والإقفال.
صحيح أن هناك وجهة نظر تقول بضرورة الانصراف إلى انتخاب الرئيس أولاً، لأن مجلس النواب هو هيئة ناخبة للرئاسة الأولى، لكن الذي جرى أن المجلس العتيد لم ينتخب ولا يريد انتخاب الرئيس المرتجى، ولا التقدم ولو الخطوات الضرورية على طريق تشريع القوانين، التي تحمي المواطنين من أزمة مالية اقتصادية مكررة بعد سنوات. فلم تُطرح أو تُقر أو تتقدم أية خطة إصلاحية لتفادي الذي حصل وعدم تكراره.
في الحقيقة، إن مجرد مناقشة الأمور بهذه الطريقة، باتت مبادرة فاشلة وغير مبررة. إذ أن استعراض الحد الأدنى من أسباب ووقائع ما جرى، يكشف أن القوى السياسية وقياداتها المصونة الموجودة في سلطة القرار الآن، هي المسؤولة والمرتكبة والمتسببة للأزمة التي علق الشعب اللبناني بها.
كيف يمكن أن نتوقع معالجة من المجرم أو المرتكب في أن يحقق ويُصلح ما نتج عن جريمة ارتكبها هو وتسبب بها هو؟
هناك أكثر من سردية إزاء ما حدث، منها، أن المصارف قامت بتسليف الدولة والدولة قامت بإنفاق الأموال فوقعت الكارثة.. الخ.
لكن تدقيق الحد الأدنى، يكشف من دون لبس أن أصحاب المصارف هم أنفسهم قادة الدولة، وأغلب المسؤولين السياسيين هم أصحاب المصارف، التي أنفقت أموال المودعين وتصرفت بها.
وفي هذه الحالة، فإن الحماية المضروبة حول حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، باتت مفهومة الأسباب ومكشوفة الدوافع، لأنه كان يؤمن خدمات لقادة الدولة-المافيا، الذين طلبوا منه وأمنوا تنفيذ السياسة التي اعتمدها. وهو الذي عبر السياسات والهندسات المالية أمّن لهم مداخيل معتبرة. وكان يصرف عليهم ويمولهم من أموال المودعين.
بمعنى آخر، فإن قادة القوى السياسية الممسكة بالقرار، كلفت "مادوف لبنان" تأمين مصاريفها ومصروفاتها وتجاوزاتها وإنفاقها وحماية ثرواتها في المصارف، والتي عادت وهربت إلى خارج لبنان مع بداية الأزمة بإشرافه هو.
أغلب القوى السياسية وأصحاب القرار شاركوا في صناعة المذبحة والكارثة التي وقع لبنان بها.
الأبرياء قلة تعد على الأصابع.
المخيف، أنه بعد نحو خمس سنوات من الكارثة، لم نتقدم على طريق معالجتها سوى عبر الأوهام والكلام الفارغ المغلف بالعجز والتآمر.
مقارنة بسيطة بين خطوات ما بعد أزمة بنك انترا، وسرعتها، وما بين قوانين وخطوات اليوم المنعدمة، تظهر أننا لن نخرج من الأتون. بل نحن ماضون في لجة جهنم.
والأخطر من كل ذلك، أن هذا البلد المنكوب بحكامه والمسؤولين عنه، قد يتبخر ويشطب عن الخريطة، إذا ما قرر مجانين إسرائيل، وهم كثر، أنهم قادرون على التفلت من قبضة وهم وأكذوبة الضغوط الدولية.
إذا ما انتهت حرب غزة في فلسطين وبقي لبنان خارجها، سالماً من الاشتراك الواسع بها، لن ينفع معه ويعيد إنهاضه، إلا عملية إعادة تكوين وإصلاح شاملة وكاملة من مختلف الأوجه والنواحي.. إذا توفرت إمكانية تحققها!