ثورة يوليو.. والعروبة السياسية

مرّت أكثر من سبعين سنة على ثورة يوليو المصرية، التي فجرت سياسات غير مسبوقة في تاريخ مصر، وتبنت شعارات استوحتها من فكر عروبي وحدوي، نبع من أرض الشام، وطوعت هذه الشعارات العروبية الجافة لتخرج في إطار أوضح، ناقلة الدعوات الوحدوية القومية إلى وحدة عربية دبلوماسية لا تنتهك السيادة، وإنما تربط مسار الدبلوماسية العربية الجماعية بالنهج المصري الدبلوماسي، وأطلقت الثورة المصرية هذا الهدف، الذي كانت تتصوره أسهل في جاذبيته وتقبله عربياً من الدعوة للوحدة العربية، كما يتبناها حزب البعث أو القوميون العرب.

ويدرك زعيم الثورة المصرية أن تسويق وحدة الدبلوماسية العربية أمر معقد، يتجاهل إملاءات الجغرافيا، ويهمل أولويات المصالح، وينكر حق الدول العربية الأخرى في بناء علاقات خاصة مع مختلف دول العالم، وأهم من ذلك، يفتح الأبواب للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.

ورغم ذلك، انطلق الرئيس جمال عبدالناصر في برنامج تسويق وحدة الدبلوماسية العربية، والتزم بها كأولوية من أولويات الثورة المصرية، التي تطمح في تحقيق موقف عربي واحد، يلتزم بما تريده السياسة المصرية في علاقاتها الخارجية، بمواجهات سياسية مع الدول الغربية، مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، متجاهلاً بعض الدول العربية، التي لها علاقات خاصة وثنائية مع بعض الدول الغربية، أو مع جميعها، لمسببات أمنية أو اقتصادية، وترابط تنسيقي، ولم تعط الزعامة المصرية هذه الحقائق أي اعتبارات، مع تصميم على أن الذي لا ينسجم مع هذا النهج، الذي تريده زعامة مصر، سيتعرض لحملات سياسية إعلامية، مخابراتية، واستفزازات مهينة لمن لا ينضم لوحدة السياسة الخارجية، ترافقها حملات تحريضية تدعو شعوب من يعارض أو يتذمر لمواجهة هؤلاء العاصين من القيادات العربية.

تحوّل الرئيس جمال عبدالناصر إلى خطيب ثوري، يملك جاذبية في القامة وفي الصوت والصورة، مع تآلف عضوي مع المتابعين والمشاهدين، متقبلين أهدافه ومتناغمين مع توجهاته.

ومن الطبيعي أن تبرز خلافات وتتوتر العلاقات، ويتصاعد تبادل الحملات، وتتباعد الدول العربية في دبلوماسيتها، وتنضم للموقف الثوري المصري أحزاب القوميين وحكام الانقلابات، وتتدهور العلاقات العربية - العربية، وصولاً إلى تبادلية التآمر والمواجهات، ومن هذا الفصل يتضخم التآمر، وتتسلل أيادي المخابرات، وتعلو فنون التآمر بين أنظمة الدول العربية، ويتلوث الإعلام العربي بمفردات الطعن والشتائم، فتنفتح أبواب مدرسة أحمد سعيد من صوت العرب بمقامات من الشتم والردح في ممارسة تبادلية، انعكست سلبياً على العمل العربي المشترك، انخرطت الدول العربية في تدخلات تخريبية، وصلت إلى استخدام الجيوش، وعلت غريزة الانتقام، وكانت أسوأها حرب اليمن ووجود الجيش المصري مقترباً من أراضي السعودية، مع إجراءات سعودية لحماية أراضيها، وتنامي القلق العالمي من مخاطر تلك الحقبة.

في أغسطس عام 1966، قام الشيخ صباح الأحمد، وزير خارجية الكويت، بزيارة إلى مدينة الاسكندرية، والتقى الرئيس جمال عبدالناصر، وشارك في اللقاء المشير عبدالحكيم عامر، والسيد أنور السادات.

كنت برفقة الشيخ صباح الأحمد في ذلك اللقاء، وبحضور أيضاً السفير المرحوم حمد الرجيب.

كان الشيخ صباح يحمل مقترحاً تاريخياً، يدعو فيه الرئيس جمال عبدالناصر إلى الالتقاء مع الملك فيصل بن عبدالعزيز في ضيافة الكويت، وبرعاية من أميرها الشيخ صباح السالم، وكانت الآمال كبيرة نحو مستقبل عربي مختلف، يتسم بالثقة المتبادلة وبنظافة النوايا وطيب السلوك، مع انطلاق عربي جماعي نحو مسار تنموي شامل، مع بناء علاقات عربية - عربية طبيعية.

شرح الشيخ صباح تفاصيل المهمة، التي جاء من أجلها، بينما كان الرئيس مستمعاً طوال الوقت، كان الشيخ صباح ضاغطاً على ضرورة اللقاء وأهميته، ليس للبلدين وإنما للجميع، عرباً وغيرهم.

تحدّث الرئيس جمال عبدالناصر شاكراً ومقدراً جهود الكويت وحرص أميرها، ثم وجّه سؤالاً إلى الشيخ صباح قائلاً: «أنت يا شيخ صباح تريد مني اجتمع مع الملك فيصل في الكويت؟»، فرد الشيخ صباح بالتأكيد على هذا الرجاء، فكان الجواب الرفض، مع تقليل فوائده للرئيس جمال، وسجل التاريخ ضياع فرصة عربية نادرة لإعادة الترابط بين الدول العربية وإغلاق مواقع الخلافات التي سببت المواجهات، لاسيما بين أهم بلدين عربيين.

انتهى الاجتماع وعدنا إلى الكويت، والعلاقات العربية تنحدر في حدتها، وتنزلق نحو مواجهات قد تجر أطرافاً من الخارج تتسلل إلى الحظيرة العربية.

وضع الرد الجاف، الذي رسمه الرئيس عبدالناصر، نهاية للجهود التي بذلها الشيخ صباح خلال سنة بدأت في مارس 1965، مع زيارة الشيخ صباح السالم أمير الكويت إلى القاهرة، مقترحاً خلال تلك الزيارة الرسمية بذل المساعي الحميدة للخلاف السعودي -المصري حول اليمن، فرحّب الرئيس جمال عبدالناصر بهذا المسعى، وبعد انتهاء الزيارة بدأ الشيخ صباح الأحمد، وزير الخارجية، بتولي هذه المسؤولية، لتحقيق الهدف الأسمى في العلاقات العربية، واستمرت تنقلاته ومساعيه من مارس 1965، إلى اغسطس 1966، مع إغلاق ملف المساعي الكويتية الطيبة، التي آمنت بأن إيجاد الحل المناسب لن يتحقق إلا بلقاء يجمع قيادة البلدين تستضيفه الكويت.

تدهورت العلاقات العربية بعد إغلاق آخر أبواب الأمل، مع ترك الوضع على الحدود السعودية -اليمنية، قابلاً للانفجار وبلا ضمان لتطويق التصعيد، بعد أن غابت جهود المصالحة.

ومن الواضح استمرار واقع اليمن في حرب بين الملكيين وبين الثورة اليمنية، وبوجود الجيش المصري، مؤمناً استمرار سلطة الثورة في صنعاء، وبتصاعد المخاطر على الحدود اليمنية - السعودية، وغارات الطيران المصري الحربي على الأراضي السعودية، كل ذلك سيزيد من خطورة الوضع، مع اتساع المواجهة بما يصيب العلاقات العربية بأضرار لا علاج لها.

ويستمر التوتر في غياب أي أمل في حل معقول، واختفاء المبادرات السلمية، فتلتهب الأعصاب نحو خطوات يأتي منها المزيد من الخراب، خاصة أن قيادة اسرائيل تتابع الأحداث، لاسيما حول نوايا سوريا، ورصد مسارات الجيش السوري، وما رافقها من تهديدات اسرائيلية بضرب دمشق، وردة فعل مصر في حرصها على أمن سوريا، كل ذلك، أدى إلى تحريك الجيش المصري نحو الحدود مع اسرائيل، ويطغى التوتر، خاصة مع طلب مصر سحب القوات الدولية من الحدود، التي أرسلت عام 1957 تأميناً لانسحاب اسرائيل من الأراضي المصرية.

كان قرار مصر مفاجأة مملوءة بالمخاطر، خاصة بعد إغلاق مضيق تيران، الذي أدخل مصر في مواجهة حتمية مع اسرائيل، التي تعهدت لها الولايات المتحدة بتأمين سلامة المرور عبر مضيق تيران، كما جاء في الاتفاق الثنائي، الذي سجل في وثائق الأمم المتحدة في اليوم الأول من مارس 1957، بعد تبادل التفاهمات في خطاب المندوب الأمريكي كابوت لودج، وجواب اسرائيل عليه بالموافقة في كلمة الوزيرة غولدا مائير، وانتهت حرب الخامس من يونيو 1967، باحتلال اسرائيل لجميع المواقع التي انسحبت منها عام 1957، بالإضافة إلى الضفة الغربية والقدس والجولان السوري.

وضعت تلك الحرب نهاية مؤلمة لثورة يوليو 1952، ولم تسلم مصر من الاحتلال، إلا بعد حرب أكتوبر 1973، ومعاهدة السلام، وتلاشت شعارات الثورة، كما جاءت نهاية العروبة الدبلوماسية، التي اختارتها ثورة مصر طريقاً لوحدة المواقف العربية.

القبس

يقرأون الآن