التشريف الأكبر الذي يحظى به أي زعيم أجنبي في أميركا هو أن يُدعى إلى إلقاء خطاب أمام الكونغرس بمجلسيه، مجلس الشيوخ ومجلس النواب.
هذا ما حظي به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن في الخامس والعشرين من تموز/يوليو 2024.
كانت تلك في الواقع المرة الرابعة على مدى السنوات التي يُمنح فيها نتنياهو هذه الفرصة، ليكون أكثر زعيم أجنبي في التاريخ يستضيفه الكونغرس بهذه الطريقة.
وكما تضامنت أميركا واصطفت مع إسرائيل بعد هجوم حماس عليها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، اصطف كبار السياسيين الأميركيين لتحية نتنياهو، ثم قاطعوه بالتصفيق وقوفاً مرات عديدة.
النقطة الأساسية التي ركز عليها في خطابه كانت قوله إن أعداء أميركا هم أعداء إسرائيل وإنه يرى أن المعركة واحدة وإن الدعم الأميركي لإسرائيل يعني دعم أميركا لنفسها!
هل من الممكن إزاحة بايدن؟
الأجواء لم تكن كلها ودية ومرحّبة برئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يقود حرب بلاده في غزة. الحرب التي بدأت بعد هجوم حماس الذي قُتل فيه 1200 إسرائيلي واختطف فيه عشرات الرهائن، ولكن الحرب قتلت منذ ذلك الحين عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وشرّدت مئات الآلاف.
قبل أن يبدأ نتنياهو حديثه، بل وقبل أن يصل إلى مبنى الكونغرس، كانت التظاهرات الحاشدة المؤيدة للفلسطينيين تمتد في الشوارع المجاورة، إذ تجمع الآلاف، رافعين أعلاماً فلسطينية وشعارات مؤيدة للفلسطينيين ومُدينة لإسرائيل وللسياسة الأميركية الداعمة لها. اتهموا نتنياهو بأنه مجرم حرب، بينما اتهمهم هو في خطابه بأنهم ممولون من إيران وأنهم يخدمون أجندتها وأجندة حماس.
زيارة نتنياهو جاءت في ظروف استثنائية تواجهها أميركا على مستويين كبيرين وأساسيين: أولهما تزايد حدة الانقسام السياسي الأميركي، أما الثاني فهو التغييرات الملحوظة في تحرك اليسار الأميركي الرافض للسياسة الأميركية التقليدية المؤيدة لإسرائيل وتأثير ذلك شيئا ما على حزب الرئيس الأميركي جو بايدن، الحزب الديمقراطي وهو حزب يسار الوسط في السياسة الأميركية.
وقد وجد نتنياهو نفسه يتعامل مع تلك الظروف الجديدة في أميركا ولم يكن الطيف السياسي الأميركي موحدا في ترحيبه برئيس وزراء إسرائيل وهي في حالة حرب، رغم أن دعم إسرائيل هو واحد من أبرز وأهم ثوابت السياسة الأميركية، سواء كانت الإدارة ديمقراطية أم جمهورية.
لكن المشهد في الكونغرس، الذي بدا مبهراً في احتفائه بنتنياهو وبوحدة الحزب الجمهوري في تأييد إسرائيل والترحيب برئيس وزرائها، أظهر أيضا غياب عدد من أعضاء الحزب الديمقراطي المعارضين لسياسية نتننياهو.
ومن أبرز الغائبين كانت رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي، التي أصدرت بيانا أدانت فيه سياسة نتنياهو.
كذلك غابت نائبة الرئيس كامالا هاريس، التي تعدّ بحكم منصبها رئيسة لمجلس الشيوخ، وهي تحضر عادة الجلسات الكبيرة التي يتحدث فيها الرؤساء، إلا أنها اختارت عدم الحضور من أجل حضور تجمع انتخابي في حملتها الرئاسية.
لكن هاريس التقت نتنياهو في لقاء منفصل مهم، خصوصا أنه كان مستقلا عن لقاء نتنياهو ببايدن؛ فقد زار نتنياهو البيت الأبيض واستقبله بايدن هناك بطريقة تقليدية تجنبت إظهار الاختلافات في وجهات النظر، ثم التقيا مع ممثلين عن أسر الرهائن المحتجزين في غزة.
قضية الرهائن لدى حركة حماس
وقضية الرهائن هي منذ البداية تشكل نقطة اختلاف بين أولويات أميركا وأولويات إسرائيل؛ فقد حاول بايدن دائما أن يكون مبدأ سلامة الرهائن والعمل على إعادتهم أولوية في العمل العسكري والسياسي، إلا أن نتنياهو كان وما زال يعتبر أن الهدف الأساسي والنهائي هو تدمير حماس وإنهاء خطرها على إسرائيل.
قدّم بايدن ونتنياهو وعداً مشتركا إلى الأسر بالعمل على إعادة الرهائن قريبا. لكن تطبيق هذا الوعد سيعتمد بصورة رئيسية على تنازلات امتنع نتنياهو عن تقديمها لحماس وسيكون الآن تحت ضغط أكبر من بايدن بأن لا يوقف مسار التوصل إلى اتفاق وصف إطلاق النار مقابل إطلاق سراح الرهائن وهو الاتفاق الذي فشل بايدن وأميركا بالتوسط للوصول إليه على مدى أشهر.
أما لقاء بايدن وهاريس، فتكمن أهميته في أنه كان عمليا أبرز مناسبة تتحدث فيها هاريس في مجال السياسة الخارجية، منذ أن أصبحت المرشحة الأوفر حظا في الحصول على ترشيح حزبها للرئاسة؛ فبينما لم يتحدث بايدن للإعلام سوى بكلمات ترحيب تقليدية لنتنياهو أثناء لقائه به، فإن هاريس تحدثت بعد اللقاء.
وقفت جنباً إلى جنب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، وكانت واضحة بل وكادت أن تكون قاطعة في أن وقت الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار قد حان.
مواقف لافتة لكامالا هاريس
لم تتخل هاريس طبعا عن المبدأ الأميركي الأساسي الداعم لإسرائيل؛ فقد أكدت التزامها بدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وأدانت بشدة هجوم حماس على إسرائيل، لكن مهمة نتنياهو معها قد تكون أصعب من بايدن إذا أصبحت رئيسة لأميركا؛ فمن الناحية السياسية المباشرة تحتاج هي الآن إلى تقديم مبادرات أكثر صرامة مع إسرائيل لترضي الجناح اليساري لحزبها، وقد تضطر أيضا إلى تقديم وعود إلى الناخبين الأميركيين من أصول عربية ومسلمة من أجل عدم خسارة أصواتهم.
الأجواء كانت مختلفة عندما التقى نتنياهو بترامب؛ فقد بدا أولاً أن الخلاف بين الرجلين الذي ابتدأ بسبب غضب ترامب من إقرار نتنياهو بفوز بايدن في الانتخابات على ترامب قد انتهى.
رحب ترامب بنتنياهو وزوجته سارة في مقر إقامته في منتجع مارالاغو في ولاية فلوريدا. ووجد نتنياهو نفسه في قلب الصراع الانتخابي عندما انتقد ترامب هاريس بشدة واتهمها بعدم احترام إسرائيل.
تجنب نتنياهو إعطاء أي وعد علني باقتراب اتفاق الرهائن، رغم أنه قادم من ضغط شديد مستمر من بايدن وهاريس. أما ترامب فقسم الاحتمالات بطريقته القاطعة :"إذا فزت في الانتخابات فسأدعم إسرائيل، وأتوصل إلى اتفاق مع إيران يرضي الجميع، أما إذا فازت هاريس فإن الشرق الأوسط مقبل على حرب كبيرة قد تكون حربا عالمية ثالثة"!
في العموم، نجح نتنياهو في إظهار ما ردده في خطابه أمام الكونغرس، من أن العلاقات بين بلاده وأميركا قوية وراسخة ومستمرة مهما كانت الظروف والاختلافات في الرؤى.
لكنه أيضا لم يغيّر قناعات الأطراف الناقدة له وقد ازدادت وكبرت في أميركا. ويبدو أن جزءا مُهماً من الحزب الديمقراطي سيستمر في نقده له وضغطه عليه، بل وحتى دعم فكرة إزاحته من منصبه.
يأمل نتنياهو أن لا يكون ذلك هدفا لإدارة جديدة ترأسها هاريس وهو يعلم أن ذلك لن يكون الحال إذا فاز ترامب.