في خضم الحرب المستمرة بين أوكرانيا وروسيا، شهدت الأيام الأخيرة تطورا لافتا مع توغل القوات الأوكرانية داخل الأراضي الروسية، في تحرك جريء يثير تساؤلات عديدة حول الاستراتيجية الأوكرانية الجديدة ودوافعها وتداعياتها المحتملة على مسار الصراع.
واعتبر تحليل لشبكة "سي ان ان"، بأن قرار كييف بتوظيف جزء كبير من مواردها العسكرية المحدودة في عملية عبر الحدود داخل الأراضي الروسية، يبدو أنه يهدف إلى تحقيق مكاسب إعلامية سريعة، إلا أن هدفه الاستراتيجي لا يزال غامضا حتى الآن.
وفي واحدة من أكبر الهجمات الأوكرانية على روسيا في الحرب المستمرة منذ عامين، اخترق حوالي ألف جندي أوكراني الحدود الروسية في الساعات الأولى من صباح السادس من أغسطس بالدبابات والمركبات المدرعة وأسراب من الطائرات المسيرة والمدفعية، وفقا لمسؤولين روس.
ويصف التحليل ذاته هذه الخطوة بأنها قد تكون "إما لحظة يأس أو إلهام لأوكرانيا"، موضحا أن قيادة الجيش الأوكراني أقدمت على حركة رمي نادر للنرد، بعد أن تم انتقاد تحركاتها في الـ 18 شهرا الماضية، وتم اعتبارها "بطيئة ومحافظة للغاية".
ووردت أنباء عن احتدام القتال بالقرب من بلدة سودجا التي يتدفق منها الغاز الطبيعي الروسي إلى أوكرانيا مما أثار مخاوف من توقف مفاجئ لتدفقات الغاز إلى أوروبا. وقال مسؤولون أوكرانيون إن طريق نقل الغاز لا يزال يعمل.
ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الهجوم بأنه "استفزاز كبير".
وقال البيت الأبيض إن الولايات المتحدة، أكبر داعم لأوكرانيا، لم تكن على علم مسبق بالهجوم وتسعى للحصول على مزيد من التفاصيل من كييف.
والتزم الجيش الأوكراني الصمت حيال هجوم كورسك، رغم أن الرئيس فولوديمير زيلينسكي أشاد بقدرة الجيش، الخميس، على إحداث "مفاجأة" وتحقيق النتائج.
وقال الرئيس الأوكراني إن موسكو يجب أن "تشعر" بالعواقب المترتبة على غزوها لأوكرانيا، مضيفا لقد جلبت روسيا الحرب إلى أرضنا ويجب أن تشعر بما فعلته"، دون الإشارة مباشرة إلى الهجوم الأوكراني.
دوافع استراتيجية أم مغامرة غير محسوبة؟
وقالت "سي ان ان"، أنه بعد أسابيع من الأخبار السيئة لكييف، حيث تحركت القوات الروسية نحو المراكز العسكرية الأوكرانية في بوكروفسك وسلوفيانسك، تُركت موسكو بعد الهجوم تتخبط لتعزيز خط جبهتها الأكثر أهمية، وهو حدودها الخاصة.
واعتبرت صحيفة "واشنطن بوست"، أن الهجوم المباغت على كورسك، الواقعة على بعد نحو 530 كيلومتراً جنوب موسكو، قد صُمم بعناية لنقل تداعيات الحرب إلى الأراضي الروسية، مشيرة أنه "حتى الآن، لم يشعر كثير من الروس بالآثار المباشرة للصراع الذي أدى إلى تدمير العديد من المدن والبلدات الأوكرانية وتشريد الملايين".
ولعل هذا التحرك الأوكراني يهدف أيضا، بحسب الصحيفة الأميركية، إلى تشتيت القوات الروسية وإجبارها على إعادة تموضعها بعيدا عن مناطق أخرى على امتداد خط المواجهة، حيث شهدت القوات الأوكرانية تراجعاً تدريجياً في الأشهر الأخيرة.
غير أن بعض المراقبين الأوكرانيين يشككون علناً في حكمة هذه المغامرة، وفقا لـ"سي ان ان".
وتوقعت الشبكة أن يندرج التوغل الأخير ضمن "استراتيجية لعب أكبر" تهدف إلى التأثير على إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، وبالتالي الحد من مصدر تمويل هام لموسكو، حيث يقع المكان الذي هاجمته أوكرانيا بجوار محطة غاز روسية، على الحدود مباشرة، وهي أساسية لتوريد الغاز من روسيا، عبر أوكرانيا، إلى أوروبا.
كما أشارت إلى أن كييف ربما تفكّر في تغيير استراتيجيتها من استهداف البنية التحتية الروسية عن بعد إلى إرسال قوات برية داخل الأراضي الروسية، مما ينطوي على خطورة على الجيش الأوكراني ويمثل تحديا جديدا للكرملين.
وربط التحليل هذا التحرك أيضا بوصول الأسلحة الغربية، خاصة مقاتلات إف-16، التي من شأنها تغيير موازين القوى الجوية لصالح أوكرانيا، رغم استمرار بعض التحديات مثل نقص الذخيرة.
وجوابا على سؤال، ما الذي يدفع أوكرانيا لاتخاذ هذه الخطوة المحفوفة بالمخاطر في هذا التوقيت بالذات؟ يقول التحليل، إن هناك دوافع استراتيجية أخرى، مشيرا إلى أنه للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، بدأت تلوح في الأفق بوادر محادثات سلام. وقد تشهد الفترة القادمة دعوة روسيا للمشاركة في مؤتمر سلام ترعاه أوكرانيا وحلفاؤها.
كما أن نسبة الأوكرانيين المؤيدين للتفاوض، رغم كونهم أقلية، آخذة في الازدياد ولو بشكل طفيف. وفوق كل هذا، يلقي احتمال عودة ترامب إلى الرئاسة الأميركية بظلاله على حسابات كييف الاستراتيجية.
ومع تزايد احتمالات التوصل إلى حل تفاوضي، يسعى كلا الطرفين، وفقا للمصدر ذاته إلى تعزيز مواقعهما الميدانية، قبل بدء أي مفاوضات محتملة.
وبغض النظر عن الدافع، فإن هذه العملية تمثل مجازفة استثنائية وكبيرة بالنظر إلى محدودية موارد كييف، وفقا للتحليل.
ولعل هذا التحرك الجريء يشير إلى قناعة متنامية لدى القيادة الأوكرانية بقرب حدوث تحول جوهري في مسار الصراع أو بتغيرات استراتيجية وشيكة على الساحة السياسية أو العسكرية.