رُصد فيلم "حياة الماعز" لمخرجه "باليسي" في الخليج بأكثر من عين وانطباع، لا سيما وأنّه نال خمس جوائز في مهرجان كرييتف كريتكس السينمائي. فقد تماهى البعض مع السرد الدرامي المُتنامي والتصوير الأخاذ في الصحراء العربية، بينما نظر بعض آخر للمآرب المُختبئة وراء الإمعان في تنميط صورة الخليجي في علاقته المُعقدة بالقوى العاملة الوافدة، كما نُمط من قبل في بعض الأفلام المصرية، بظهوره في الملاهي الليلية في صورة من ينثر المال فوق رأس الراقصة!
وإن كان ثمّة جذر واقعي لكل هذه التصورات، إلا أنّ فرادة الفن تكمن في التقاطه الجوهر الأكثر حساسية من المتن العام. فرغم أنّ شخصية البطل "الضحية" عانت من نوعين من الشر، أحدهما نبت في بلاده حينما خُدع بتزوير مستندات قدومه للخليج، إلا أنّ ذلك لم يكن مركزيا في القصّة رغم أنّها الخدعة الأولى التي حملته للمصير الأشد قتامة. كما أن تقديم صورة الهنديين -على أنّهما مُسلمان تعرضا لعنف مُركب في الخليج- حملت إشارة مُبطنة بأنّ الخير يندر حتى في حدود أبناء الجلدة الواحدة!
تسنت للمخرج فرص كثيرة لكسر التصور النمطي، لكنه فضل تكشير الأنياب، فتمثل الشر المطلق في البدوي الذي علّمت خشونة الصحراء طباعه، وإن بُرر ذلك فنيا، فكان بالإمكان أيضا أن يتحلى أحد المارّة أو أحد رجال الشرطة بقليل من الرحمة. لكن حتى الرجل المهندم الذي أنقذه، أخذه ليتركه في الشارع دون أن يسأل عن سر آلامه وخيباته! ومُدبر قصّة الهروب كان من جنسية غير عربية أيضا، ليُمعن المخرج في شرح الصورة.
هذا لا يعني انتفاء الشر أو انعدام العنصرية من هذه البقعة، كما لا يعني براءة صناع الأفلام من تمرير رسائلهم المُضمرة.
بالمقابل لا نستطيع أن ننكر أنّ الفيلم قدّم لوحة بديعة للصحراء، فقد لعب "باليسي" على تقلبها المستمر كحرباء، بين قسوة برودتها ليلا وحرارة رمالها نهارا، وحوشها الضارية وأشباح فراغها المذهل، فتبدت كانعكاس حاد لتدهور أوضاع الضحية الذي خرج من الهند العامرة بخضرتها وتدفق مياهها إلى الندرة التي تضطره لأن يغسل نجاسته بالتراب!
كما أنّ العلاقة التي نشأت بين الضحية والمواشي، رُسمت بعذوبة لافتة، أنقذته من يأسه، حتى الطيور الجارحة التي نهشت لحم من سبقه علّمته درس النجاة. انعكاس بؤسه في عدسة عين الجمل، ورأسه المائل وهو يرد الماء كما ترده الأنعام، وانتهاء إلى حضن الوداع النهائي بينه وبينها.. كل هذا أضمر أسباب عيشه لثلاث سنوات.
ما لا يُمكن الاختلاف عليه هو الدور الذي أضاءه الفنان العُماني طالب محمد، الشر المطلق، والقسوة والشراسة التي نبتت من عينيه، ثمّ ما لبثت أن نمت في يديه التي تضرب وقدميه التي ترفس، والخبث الذي جعله يصطاد فريسة شديدة الهشاشة والاغتراب من مطار المدينة المُشعة بالفرص الوردية إلى صحراء قاحلة، ثمّ تمثله لشظف العيش في مكان يشح فيه الماء والطعام. وقد استثمر المخرج حاجز اللغة بين البدوي والضحية ليُضاعف المعاناة ويُعبئ الحدث بالهواجس، إذ غدا هامش سوء الفهم مُتاحا بصورة متناسلة.
أكاد أجزم أنّ طالب محمد تمكن من إرعابنا، جعلنا نُصدقه. تكفي تلك المواجهة بينه وبين فريسته عندما شاهدناه راكضا فوق الجمل مُلاحقا ضحيته، وهو مشهد خطير، وقد بلغ الرابعة والستين من عمره. وكذلك في آخر الفيلم، عندما جعل الفوران يتصاعد فينا، بينما نيران الرغبة الدفينة فيه كجلاد يشرئب لتمزيق الضحية إربا إربا لولا سلطة القوانين التي منعته من ذلك.
قد تُجيب هذه التجربة على أكثر أسئلتنا جموحا حول خيبة الدراما العُمانية ومآزقها اللانهائية. فكم مرّة تساءلنا إن كان مرد ذلك: النصّ الرديء أو الإخراج الباهت أو التمثيل السطحي أو تنوعنا اللهجي. فلقد ذُكرت أسباب شتى، لكن أكثر ما يتم تجاهله هو غياب المشروع الرصين والمتكامل، وإلا لماذا يبدو ممثلنا العُماني في الخارج لافتا ومؤثرا في غابات النصّ البصري!
أنجز هذا العمل في خمس سنوات، واشتغل فيه أكثر من مائة فني، وعولج النصّ الأصلي مرارا، وخسر البطل الكثير من الوزن حتى لم يعد قادرا على شد بنطاله حول خصره. فلكيلا نُنمط، علينا أيضا أن نُقدم أنفسنا، في أكثر الطرق المُتعرجة حدّة ووعورة، فالفن كما قال آرنست فيشر: "لا يعوض الواقع ولكنه يُكمله ويُغذيه".
عمان