الهدنة المؤقتة في غزة هي ضرورة أميركية ومسألة انتخابية بحتة، بات الطلب على تنفيذها مسألة أيام غير بعيدة، خصوصاً مع وجود رهائن أميركيين في غزة، فمسألة إطلاق سراحهم ستطفئ كثيراً من ضوضاء الأسئلة الإشكالية بالذات حول غزة في أميركا التي تشهد حماسة نوعية، وإشكالية برزت فيها القضايا الدولية في صدارة المشهد الانتخابي والذي كان دائماً يتناول المسائل الداخلية.
بالتالي أن يأتي الاتفاق جزئياً، هو القادم، خصوصاً وأنه سيناسب نتنياهو خبير التعطيل الشهير في مسألة الاتفاقيات من أوسلو إلى كثير من الملفات بعده، حيث يمكنه العودة عن أي اتفاق، حتى ولو كانت ثمة شراكة في القراءة وترجمة النصوص، لأنه غالباً في حالة غزة الآن لن يوقع الاتفاق مع حركة حماس وسيكتفي بالوسطاء، ويمكنه أيضاً نقض أي اتفاق مع حماس لو فعل ذلك والسبب أن العمر الافتراضي لحركة حماس هو المدة الزمنية لاحتفاظها بالرهائن، ومع مغادرة الرهائن الأحياء قطاع غزة، سيكون اليوم التالي لحركة حماس سوداوياً لأنها حركة باتت مدانة على المستوى الدولي، ما سيفرض على حماس معادلات لم تكن موجودة قبل السابع من أكتوبر.
هنا تبرز جدلية نيتساريم ومعبر رفح، وهي الجانب الذي يعطل شكلياً مضمون المفاوضات، ولا يلغي استمرارها ولكن بطريقة بطيئة ترضي الطرفين، فإذا كان نتنياهو قد ذهب إلى حرب طويلة نتيجة أزمة اليوم السابق وامتلاء شوارع تل أبيب بالمتظاهرين نتيجة التعديلات القضائية التي اقترحتها حكومته، فهناك أزمة تماماً في حركة حماس، والتي أصبحت عند مساء السابع من أكتوبر منظمة مطلوبة دولياً، فهناك ضحايا هم رعايا دول أوروبية وآسيوية إضافة الى أميركا لم يكونوا جزءاً من حسابات حماس الطائشة. فهذه الشراكة في المصلحة بين الطرفين كانت تقودهما نحو إطالة أمد الحرب، ولكنها لن تقطع حبل الوصال في ملف المفاوضات، والذي سينتقل بحسب الضرورة والمصلحة لكل طرف. فالقادم الآن أو غداً وبمنطق الضرورة يتمثل في صورة اتفاق بالتجزئة، تحصل فيه أميركا على الرهائن الأميركيين الأحياء، وتحصل حماس على نسبة من الأوكسجين، على شاكلة أي عملية تبادل للمختطفين خارج نطاق وسياق القانون، ويحصل نتنياهو على استمرار الدعم السياسي والعسكري له في الأشهر الأخيرة ما قبل الانتخابات الأميركية القادمة.
فما يهم حماس بالدرجة الأولى هو منطقة نيتساريم، وهي المنطقة التي كانت تحتلها إسرائيل قبل 2005 وهي تفصل شمالي غزة عن جنوبها، فهذه المنطقة الرخوة والمحتلة الآن فصلت بين عناصر حماس الموجودين في مدينة غزة وبين الجنوب، وهذا الفصل له تبعات قاسية على حركة حماس، من هنا يأتي إصرار حركة حماس على فتح هذا المعبر لأن استمرار حصار عناصرها في الشمال يخلق فجوة وأزمة ثقة داخل الحركة أمام حالة اليأس الموجودة في الشمال والتي لا تزال تخشى حماس بسببها من نتائج كارثية على الحركة والخوف من انشقاقات داخلية خصوصاً وأن إسرائيل عرضت حلولاً سابقة تبدأ في الشمال، وصفقة مع بعض العائلات لتشكيل إدارة مدنية هناك، فهناك تاريخ قديم بين تعاون عدد من قادة حماس وهروب بعضهم إلى إسرائيل وهو بمثابة ناقوس تذكار يومي يدق الآن، وكانت حماس تعيش هذا الهاجس بعد كل حرب، وكانت تجري دائماً اعتقالات داخلية بطرق قاسية، خصوصاً وأن بنية الحركة الأمنية وعقدة الشك والتخوين فتحت صراعات قديمة قابلة للتجدد في ظل الظروف الاستثنائية.
وهي نيتساريم أيضاً مهمة لـــ نتنياهو، والتي من خلالها يغازل أقصى اليمين في حكومته، باعتبارهم يريدون العودة إلى الاستيطان في هذه المنطقة، معتبرين أن وجود الاستيطان السابق في منطقة نيتساريم قبل عام 2005 يضعف من قبضة حماس على غزة، وبالتالي فإن ملف نيتساريم أصبح نقطة وحدة الحكومة الإسرائيلية الحالية ويمنعها من الانهيار، ولكن في نهاية المطاف، تبقى قصة نيتساريم معادلة سياسية محددة لظرف محدد، وسوف تنتهي هذه المعادلة مع تشكيل حكومة إسرائيلية قادمة، ليس بالضرورة أن تتبنى رؤية اليمين المتطرف في ملف نيتساريم، لأن غزة بمجملها هي معادلة دولية لا تستطيع إسرائيل أن تجري عليها أي تعديلات بمفردها، خصوصاً إذا كنا نتحدث عن غزة منزوعة السلاح، ما ينزع مبرر الفصل ويسقط قصة التقسيم.
وأما مسألة معبر رفح، فثمة حلول عديدة مؤقتة، وأخرى مؤجلة، ولكن كل ذلك إضافة إلى قصة نيتساريم سيخضع إلى معادلة الضغوط الأميركية والتي سوف تدخل مرحلة التنفيذ، وبذلك ثمة ممر محدود لأجل محدود بين شمال غزة وجنوبها، وثمة دوامة صنعها موقف السلطة الفلسطينية بذهاب قيادة السلطة الى غزة، فإذا كان الذهاب الطبيعي عبر معبر رفح المنفذ الوحيد الذي شمله اتفاق 2005. فهو ما ترى فيه إسرائيل نوعاً من الدراما غير المقبولة لأنها لن تتعامل معه، وهو ما يرى فيه المجتمع الدولي تحركاً دبلوماسياً لوقف الحرب، وهو ما ترى فيه حماس انقضاضاً على غزة وخنقاً لدورها هناك، وبالتالي أمام كل المعادلات تبقى معادلة الضغوط لأجل هدنة مؤقتة هي الممكن الآن، وستكون مفيدة لــ نتنياهو إذا ما قرر الهجرة بجيشه إلى الشمال في مواجهة حزب الله، وستكون مهمة لعناصر حماس لاستنشاق الهدوء، وستكون مفرحة ومؤلمة لأهل غزة بنفس الوقت، لأن هدوء العواصف يكشف حجم الجراح التي خلفتها وراءها.