للأسف فإن النظرة العربية للساسة الغربيين تكون من منظور الصراع العربى الإسرائيلى، والمدى الذى يصل إليه فى تقديم العون لإسرائيل لممارسة غيها وعنفها. مع مشروعية النظرة فإن الغرب أعقد من ذلك، وهو يمر بمراحل تاريخية متضاربة تخلخل المجتمعات والسياسات وتهزها من أعماقها حتى وهى تقود العالم تكنولوجيا وسياسيا وعسكريا، وتخوض صراعات خائبة وفاشلة، ولكنها فى النهاية تظل لافتة للنظر.
وخلال ما يقرب من ثلاثة عقود ونصف فإن الغرب مر بثلاث عمليات تاريخية عميقة: أولاها كانت عولمة الفكرة الأوروبية الأميركية والتى ثبت أنها لا تشكل نهاية التاريخ حيث ينتشر ثالوث الليبرالية والديمقراطية والرأسمالية، وإنما تخلق جدل المرحلة الثانية "ضد العولمة" حينما تسود حروب الإرهاب وتنتصر الجماعات الأصولية من الشرق الأوسط إلى وسط آسيا على التحالف الغربى.
النتيجة باتت نزعة يمينية أصولية ودينية هى الأخرى تدعو إلى العزلة والخروج من الاتحاد الأوروبى ويلمع فيها دونالد ترامب وأمثاله فى أوروبا. ما يبدو الآن، والتاريخ بات أكثر سرعة، أن العالم يجرى فى اتجاه مرحلة ثالثة تخرج على سابقتيها وتخلق أعمدتها الفكرية الخاصة التى بات عليها أن تهزم المرحلة الثانية، وتصلح من المرحلة الأولى وتجعلها أكثر عقلانية وقبولا لتعدد البشر وقدراتهم ونوازعهم.
الإشارات الأولى لهذه المرحلة الجديدة جاءت من أوروبا حيث نجح حزب العمال البريطانى بعد 14 عامًا خارج السلطة، فى أن يعود بأغلبية كبيرة؛ وتلاه مباشرة نجاح تحالف اليسار مع الوسط فى فرنسا لكى يغلق الطريق على يمين متعصب وعنصرى كان مفتوحا على مصراعيه.
الإشارة الجديدة تأتى من الولايات المتحدة التى حتى وقت قريب كانت تنزلق نحو جولة انتخابية رئاسية جديدة تبدو فيها تسلم تسليم مفتاح كما يقال الدولة الأميركية كلها إلى ترامب وفلسفته الترامبية بكل ما فيها تعصب وعنصرية وعزلة. حتى 28 يونيو الفائت كانت المعركة الانتخابية تسير فى طريقها المعلوم حيث فاز ترامب فوزا ساحقا فى الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهورى، وكان متسيدا ومسيطرا على الحزب إلى الدرجة التى لم يقبل المناظرة مع جميع المرشحين الآخرين، وتساقطوا الواحد وراء الآخر حتى بات المرشح الوحيد.
الرئيس بايدن أخذ طريقه التقليدى كرئيس لا يترشح أحد أمامه، وفاز فى الانتخابات التمهيدية بنسبة 87٪. كان واعيا لحقيقة سنه، ولكنه كان أكثر اعتقادا فيما حققه وأنجزه خلال الأعوام السابقة؛ وكان فى ذهنه ذكرى الانتخابات السابقة فى 2020 حينما تلاقى كل المنافسين الديمقراطيين فى حلف متين للإطاحة بدونالد ترامب، وهو ما كان.
المناظرة مع ترامب خلقت هزة كبيرة فى الحزب الديمقراطى حينما ظهرت أعراض الزمن على رئيس الدولة الأميركية، ولكن ذلك لم يمنعه من التصرف كرجل دولة عندما تعرض ترامب لمحاولة الاغتيال فى 14 يوليو. كان الخطر الماثل هو دخول أميركا فى موجات من العنف، حاول كرجل دولة الاقتراب من ترامب، اتصل به مهنئا على النجاة، وداعيا للوحدة، أصدر بيانا مطولا، وظهر مباشرا فى خطاب مقدما يده إلى الجانب الآخر.
ما بين 14 يوليو و21 يوليو كان رجل السياسة ورجل الدولة فى مواجهة بعضهم البعض؛ فليس بالسهولة أن يترك السياسى منصبه الذى وصل إليه بأغلبية حزبية ساحقة؛ ولكنه من جانب آخر كان رجل الدولة فيه يرى ما سوف تكون أميركا مقبلة عليه. ترامب لم يكن مستعدا للتجاوب مع دعوة الاتحاد، وإنما بات مصرا على انتهاز فرصة سانحة للإجهاز على منافسه.
أسبوع من الحيرة عاشه بايدن، بينما يدير أحوال دولة كبيرة، وعالم صعب معه على حافة الهاوية؛ حيث حرب أوروبا دخلت مرحلة جديدة مع الهجوم الأوكرانى على كورسك، وحيث فى الشرق الأوسط تجرى بين أصعب المتخاصمين نتنياهو والسنوار.
ولحسن حظه أن حلف انتخابات 2020 كان لا يزال قائما، وفيه من أصحاب الخبرة أوباما وكلينتون وبيلوسى وغيرهم من زعماء الحزب الديمقراطى، من لا يجدون حرجا فى مصارحته بالحقيقة وهى: أنه لا يستطيع أن يقود العالم فى لحظة تبدو فيه الخسارة مرجحة داخل أميركا؛ وأنه ربما آن الأوان لكى يقدم المثال للخروج من السلطة ونقلها إلى خليفته كامالا هاريس، وهو انتقال منطقى لعله سوف يحدث خلال عام أو عامين.
فى 21 يوليو قام بايدن بواجبه كرجل دولة إزاء وطنه الذى خدمه نصف قرن؛ وفى كلمته الافتتاحية لمؤتمر الحزب الديمقراطى العام كان صريحا وهو أنه كان يحب السلطة كثيرا؛ ولكنه يحب وطنه أكثر. باق على الزمن شهور وتغرب شمس بايدن، ولكنه سوف يُعرف فى التاريخ بفترة واحدة من الحكم.
المصري اليوم