يتحايل الأميركيون والوسطاء الآخرون لجمع الأطراف المتنازعة في السودان وليبيا وفلسطين، وأقطار أخرى. والواقع أننا شكونا طويلاً من التدخلات وتشكيل الميليشيات في عدة بلدان، للاستيلاء وإضعاف السلطات. بيد أنه في حالتي السودان وليبيا لا يمكن اتهام الطرف المعتاد بالتشكيل الميليشياوي. وهكذا ينبغي البدء من مكانٍ آخر: ملف الدولة الوطنية، ولماذا نال منها التصدع في عدة أقطارٍ عربية. ففي 5 أو 6 دول تشكلت ميليشيات إلى جانب الجيوش أو أن الجيوش شكلتها، ثم استعصت عليها وعلى الدول، وأقامت علاقات وموارد بالداخل. ولأنّ التجربة تكررت في عدة بلدان، فما عاد يمكن تعليلها بضعف الإرادة السياسية أو البنى القائمة. بل إنه في إحدى البلدان كانت الإدارة العسكرية هي التي دعمت إنشاء ميليشيا تكافح المتمردين عليها، ثم ها هي تشتبك معها بعد عشر سنين فلا تستطيع إخضاعها. فما أقصده أنّ هناك عدة أسباب لقيام الميليشيات المسلحة إلى جانب الجيوش والإدارات السياسية. فيتعلق الأمر إذن بظاهرة التصدع في تجربة الدولة الوطنية.
وهو ملفٌ لا ينبغي أن نتوقف عن البحث فيه واستنطاقه والتفكير فيه تفكيراً نقدياً، لتصحيح تجربة الدولة الوطنية أو تجديدها. أما الملف الثاني فهو ملف العلاقات الدولية. فالنظام الدولي ظهرت فيه تصدعات كبيرة، وصار بسبب الانقسام عاجزاً عن اتخاذ قرارات وإنفاذها في مجلس الأمن، ولا في المحادثات بين الدول الكبرى. والدول العربية والإسلامية والتي كانت تشكو من التبعية لهذا الطرف الدولي أو ذاك، ما عادت تقبل ذلك أو تريده: فكيف يمكن حفظ المصالح من دون حلفاء أو أصدقاء، ثم ما هي المصلحة التي لها الأولوية الآن في هذا الاضطراب الهائل للعلاقات الدولية؟ ملف العلاقات الدولية تحليلاً وإعادة بناء وتبين الموقع اللائق أو الممكن فيه هو الملف الثاني إذا صحّ التعبير للتفكير والتدبير إذا أمكن، وتأمل السياسات الممكنة والفعالة.
أما الملف الثالث، وهو خطيرٌ أيضاً، فهو ملف متابعة التطورات المتسارعة في عالم الإسلام، والعلائق مع الجمهور في ظل الحرب، كما العلائق مع العالم الذي يسيء الظنّ بالحركات الجديدة والتي تسمى حركات الإسلام السياسي. كلما ظننا أنّ التوتر الذي يصنعه المتطرفون قد تراجع أو تضاءل، هبّت أزمةٌ أو حربٌ فاندفع المتحمسون والمحترفون لإشعال النيران باسم الإسلام. لقد مضت على هذه الظاهرة أو الظواهر عدة عقودٍ، حوّلت القوى العاطفية والمثالية في الدين إلى أدواتٍ في أيدي المتطرفين. وهي أمورٌ ما عاد يمكن تحملها لا لدى الدول ولا لدى المفكرين أو المؤسسات الدينية.
ولذلك لا بد من فِرَق بحثية مختلطة لدراسة الظواهر، وعدم الاقتصار على ملف تجديد الخطاب الديني. وعلى كل حال فإنّ الجديد في معظمه هو توتر وتوتير ومجازفات ومغامرات انتحارية أو انتهازية.
إنها ثلاثة ملفات إذن: ملف المراجعة النقدية لتجربة الدولة الوطنية بأبعادها كافة، ومن جانب السياسيين والمفكرين. والملف الثاني هو ملف العلاقات الدولية ومشكلات النظام العالمي، لتبين المصالح وتقدير التوقعات. أما الملف الثالث فهو ملف الظاهرة الدينية في توتراتها وإرهاقها للدول والمجتمعات والعالم.