تبدو الأحداث في أقصى الشرق الآسيويّ وكأنّها تتدافع بشكل مخيف، لتصل إلى نقطة الصدام التي لا يرغبها أحدٌ، غير أن الرغبات وحدها لا تكفي لوقف تدهور المشهد على صعيد الحرب الروسية – الأوكرانيّة، وبخاصّة في ظلّ إصرار الناتو على إلحاق هزيمة كبيرة بروسيا، الأمر المستبعد في مواجهة دولة نوويّة كبرى بقدرة أبناء السلافيّين.
لم يَعُدْ سرًّا أنّ سيّد الكرملين فلاديمير بوتين، بات يواجه حالة من الضيق والضجر الداخليّيْن، من جرّاء تطوّرات الأحداث على جبهة كورسيك، وربّما لم يصل الأمر بعد إلى مرحلة تمرّ جماعة السيلوفيكي، أي كبار القادة المتنفذين من حوله، لكن يمكن القطع في كلّ الأحوال بأنّ حالة من عدم الراحة تنتاب جلَّهم على الأقل.
للمرّة الأولى منذ الحرب العالميّة الثانية، تتعرّض الأراضي الروسيّة لغزو خارجيّ، وهو الأمر الذي يُعَدّ لطمة غير مسبوقة للقيصر، عطفًا على هجمات قويّة تطال الداخل الروسيّ عبر المسيرات من جهة، طائرات الـF16 الأميركيّة الأحدث في الترسانات الجوّيّة من جهة ثانية، ناهيك عن الصواريخ المتقدّمة التي باتت قادرة على إصابة القواعد الروسيّة المسلّحة وإلحاق أضرار بالغة بها بجانب الجسور المهمّة وبقيّة مواقع البنى التحتيّة في قلب موسكو العاصمة.
هل بات على القيصر الاستعداد للقارعة النوويّة، لا سِيّما في ضوء رؤيته لتجهيزات عسكريّة مخيفة تجري بالقرب منه في بولندا، والتي تظهر على الخارطة الجيوسياسيّة الأوروبّيّة، بوصفها الدولة المرشّحة للمواجهة العسكريّة الكبرى مع روسيا، سِيّما أنّها عضو فاعل في حلف الناتو؟
لتكن بداية البحث عن إجابات من قلب موسكو، حيث تصريحات سابقة، وإجراءات لاحقة، جميعها تقطع بأنّ الروس يتجهّزون ربّما لمواجهة نهائيّة، لا تصُدّ ولا ترُدّ، وباستخدام أسلحة تتجاوز ما هو تقليديّ، إلى دائرة النوويّ التكتيكيّ بدايةً، فيما احتمالات اللجوء إلى الإستراتيجيّ تبقى حاضرة من غير مقدرة على أن ينكرها أحد.
والشاهد أنّ روسيا والتي يبدو الهدوء المدوّي مخيّمًا عليها، إنّما تعمل بجدّيّة تامّة، وبحسم منقطع النظير، في الطريق إلى تطبيق "عقيدتها النوويّة"، تلك التي تسمح لها باستخدام أسلحة الدمار الشامل، حين تدرك أنّ أمنها القوميّ بات مهدَّدًا، وغالب الظنّ هذا حادث الآن على الأرض، بل حدث قولاً واحدًا.
التصريحات لم ينفكّ العديد من كبار المسؤولين الروس يتكلمون عنها، وفي مقدّمهم نائب رئيس مجلس الأمن القوميّ، الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف، والذي لم يوفّر التهديدات النوويّة لدول أوروبا لا سيّما المانيا وفرنسا وبريطانيا، مراكز القوة، في فرع الناتو على الجانب الغربيّ من الولايات المتّحدة الأميركيّة.
ما كان مجرّد نوعٍ من أنواع التنظير العسكريّ، بات اليوم حقائق، وهذا ما كشفت عنه صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية الأيّام القليلة الماضية، حيث أكّدت اطّلاعها على ملفّات سرّيّة روسيّة، أفادت بأنّ القوّات البحريّة الروسيّة قد بلورت خرائط لأهداف بعيدة، مثل الساحل الغربي لفرنسا وبارو عن فورنيس في المملكة المتّحدة في عرض تقديميّ للضبّاط يسبق غزوًا كاملاً لأوكرانيا.
الصحيفة عينها كانت قد نقلت سابقًا عن المجموعة المكوّنة من 29 ملفًّا عسكريًّا روسيًّا سرّيًّا أنّ موسكو تدرّبت على استخدام الأسلحة النوويّة التكتيكيّة في المراحل المبكّرة من الصراع مع قوّة عالميّة كبرى.
لم يَعُدْ سرًّا القول إنّ الروس يجهّزون أنفسهم منذ وقت طويل لمواجهة مسلّحة كبرى مع الناتو، وربّما بدأ الأمر في العام 2008 بنوع خاصّ في أعقاب حديث الثورات الملوّنة في جمهوريّات سوفيتيّة سابقة، وبالتحديد حين كانت البداية من جورجيا.
ما أظهرته الفاينانشيال يوضّح كيف أنّ الروس وضعوا تصوّرات لصراع مع الغرب يمتدّ إلى ما هو أبعد من حدودها المباشرة مع حلف الأطلسي، والتخطيط لسلسلة من الضربات الساحقة في جميع أنحاء أوروبّا الغربية.
كيف تستعدّ روسيا للقارعة؟
من الواضح جدًّا أنّها تجهّزت بالفعل بحرًا وبرًّا وجوًّا، ففي البحر عزّزت قدرات سفنها الطافية فوق المياه بقدرات صاروخيّة نوويّة تكتيكيّة سريعة متوسّطة الحجم، تمكّنها من مناورات الإلهاء، فيما نيران جهنّم تقبع في الغوّاصات المخيفة، سواء تلك التي ورثتها منذ العهد السوفيتيّ، أو المصنَّعة حديثًا، والبعض منها مُحَمَّل بما يُمَكِّنه من إبادة مدن أوروبّيّة كبرى من على الخريطة.
أمّا في الجوّ، فإنّ القاذفات الروسيّة بعيدة المدى تكاد تُرعِب الناظرين، سِيّما حال تضافر العمل العسكريّ مع باقة من الصواريخ الإستراتيجيّة الكفيلة بإدخال العالم برُمّته في مرحلة الشتاء النوويّ، وليس أوروبّا فقط، ومن غير المصدَّق أن يراجع أوضاع الصاروخ المُسَمَّى سارامات، ذلك القادر على حمل عشرة رؤوس نوويّة كارثيّة.
في هذا السياق يخبر "ويليام ألبرك"، المسؤول السابق في حلف شمال الأطلسي والذي يعمل الآن في مركز "ستيمسون" بأنّ ما تمّ الكشف عنه من أهداف أوروبّيّة تطالها الترسانة الصاروخيّة النوويّة الروسيّة، هو في واقع الأمر جزء صغير جدًّا من "مئات"، إن لم يكن آلاف الأهداف التي تمّ رسمها في جميع أنحاء أوروبّا، بما في ذلك الأهداف العسكريّة والبنية التحتيّة الحيويّة.
هل من دولة بعينها تتجهّز لتكون نقطة المواجهة القادمة مع روسيا؟
على من يريد جوابًا مستفيضًا أن يراجع كتاب "المائة عام القادمة"، لرجل استخبارات الظلّ، جورج فريدمان، مؤسّس ورئيس مجلس إدارة مجموعة ستراتفور البحثيّة ذات المسحة الاستخباراتيّة.
فريدمان، وباختصار غير مُخِلّ، يقطع بأنّ بولندا هي الدولة الأوروبّيّة المرشَّحة لأن تكون نجم أوروبّا العسكري خلال العقود الثلاثة القادمة على الأقل... هل الأمر مجرّد قدرات قتاليّة، أم أن هناك خلفيّة تاريخيّة مثيرة وعداءً مستحكمًا بين واروسو وموسكو؟
ربّما هنا يكون الجانب الإيديولوجيّ هو الأخطر، فبولندا عانت لعقود طوال من سطوة موسكو السوفيتيّة، وكان يكفي للمرء أن ينظر إلى الطريقة التي يتعامل بها الجنرال ياروزلسكي وحكومته الموالية للاتّحاد السوفيتيّ مع البولنديّين، والعسف والسخف اللذان تعرّضا لهما منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، وحتّى سقوط حائط برلين.
كانت بولندا هي المسمار الأوّل الذي دقَّ في جدار الشيوعيّة المتين منذ ثمانينات القرن الماضي، وهو ما لا يزال الجنرالات الروس يتأسّون من جرّائه، وربّما يُضْمِرون رغبةً مبيَّتة في الثأر من البولنديّين.
لكن على الجانب الآخر، تبدو وارسو وكأنّها تتجهّز بالفعل للمواجهة القادمة، فهي الآن دولة عضو في حلف الناتو، وقد قرّرت الدعم المطلَق للجار الأوكرانيّ، ربّما لإدراكها أنّها قد تكون التالية في مغامرات القيصر العسكريّة، وقد استقبلت بالفعل عدّة ملايين من اللاجئين.
تتضمن خطّة التحديث الشامل للجيش البولنديّ للفترة 2021 -2035 إنفاق أكثر من 116 مليار يورو لشراء الأسلحة من الولايات المتّحدة بشكل رئيس.
لكنّ الأهمَّ هو أنّ بولندا ستكون قاعدة نوويّة متقدّمة للناتو، وهو الأمر الذي هدّدت موسكو مرارًا بأنّه لن يحدث، ذلك لأنّها بهذه الوضعيّة ستكون قادرةً على إصابة روسيا في مقتل في أيّ لحظةٍ تريد.
هل هو سيناريو كرة الثلج تجري به المقادير في شرق آسيا؟