هناك فارق بين الحقيقة والصورة الذهنية التى تستقر فى أعماقنا، طلعت باشا حرب، رائد النهضة الاقتصادية المستنيرة، كان متزمتًا بل ورجعيًا فى الكثير من قراراته، ومواقفه، التى تناقضت فى جزء منها مع ما يعلنه عادة من مبادئ وأفكار تشعرك بالانفتاح الفكرى والثقافى.
هكذا قرأت الرسالة التى بعثها لى الكاتب الكبير محمد عبد القدوس، فى ذكرى إنشاء الصرح الثقافى (استوديو مصر)، الذى أقامه طلعت باشا حرب نهاية الثلاثينيات، مثلما أقام (بنك مصر) قبلها فى العشرينيات، والعديد من المشروعات الاقتصادية التى رسمت ملامح مصر الحديثة، ولا تزال، المؤكد أن هذا الرجل أحد أهم بناة الوطن.
الانطباع العام أنه منفتح على الحياة، مؤمنًا بالحرية، فمن يدعم الاقتصاد الوطنى يجب أن يتسم بالقدرة على الإقبال على الدنيا بكل أطيافها، هذا الرجل مثلًا عارض بشدة أفكار قاسم أمين، محرر المرأة، ووجدها تتعارض مع الأديان والعادات والتقاليد، بينما نكتشف مثلًا أن الإمام محمد عبده، المفتى الأسبق، برغم موقعه الحساس داخل المؤسسة الدينية الرسمية، إلا أنه كان مؤيدًا لأفكار قاسم أمين، بل إن البعض يصل أيضا إلى الإشارة إلى أنه كتب من الباطن بعض فصول كتاب (تحرير المرأة) لقاسم أمين، خاصة تلك التى تتماس مع الدين، ولحساسية موقعه، فلم يوقعها باسمه.
ربما كانت مجرد مبالغات لا تستند إلى وثيقة، ولكنها تظل قادرة على أن ترسم لنا ملمحًا عن تكوين قاسم أمين، وفى نفس الوقت تلقى بظلالها على طلعت حرب، الذى طرد السيدة روزاليوسف من فرقة (عكاشة) المسرحية لأنها ارتدت على الشاطئ بيجامة كاملة، اعتبرها خارجة عن التقاليد، هل هذا المتزمت، اجتماعيًا يقدم لنا كل ذلك؟!، لولا حماس طلعت باشا لبناء الاستوديو لتأخرت مصر عن مواكبة العالم فى صناعة السينما.
ورغم تعارض فكر طلعت حرب مع قاسم أمين، إلا أنه وافق على اقتراح هدى شعراوى بإقامة حفل تأبين له فى حديقة الأزبكية التى يمتلكها.
إنه التناقض بين الظاهر والباطن كما تشى الحكايات السابقة، ممكن أن نقرأها كذلك، إلا أن الوجه الآخر للحكاية هو رحابة الفكر ممكن أيضًا أن نراها على هذا النحو، أو أن (البيزنس) لا يعرف (الدوجما)، والاستوديو فى النهاية مشروع اقتصادى ممكن أيضا قراءتها هكذا، وربما نوسع الدائرة ونقول إن الحياة كلها حتى تستقيم يجب أن تبتعد عن تلك الآراء القاطعة، وهى التى نعرف أصحابها بـ(الدوجما). من يواصل الاستمرار والصعود هم فقط القادرون على المرونة، وهذا لا يعنى التنازل على المبادئ، أو كما يقول أولاد البلد (إللى تكسب به العب به)، ولكن شيئا من إمعان الفكر فى كل الموقف، ولكل مقام مقال.
أحيانا التجربة تضعنا فى موقف حتمى، مثلا كاتبنا الكبير مصطفى أمين كان صديقًا لتحية كاريوكا ومشجعًا لها، ومدافعًا عنها، إلا أنه عندما اكتشف أن تلميذه النجيب الكاتب الكبير أحمد رجب وقع فى حبها وسوف يصبح الزوج رقم (١٧) على خريطتها العاطفية، طلب من تلميذه أحمد رجب ألا يكمل تلك الزيجة، مراعاة لمستقبله الصحفى، وتزوجت تحية كاريوكا ساخرًا آخر، وهو الكاتب الكبير فايز حلاوة، ليحتل الرقم (١٧) والأخير، وهو الوحيد الذى سبب لها آلامًا نفسية وعاطفية ومادية، وتلك حكاية أخرى، والغريب أن تحية كاريوكا لم تتحدث يومًا عن علاقتها بأحمد رجب، بينما أشار الأستاذ أحمد رجب لتلك العلاقة بدون توضيح مباشر فى مذكراته التى حققها الكاتب الصحفى محمد توفيق.
قالت لى الصديقة نسمة يوسف إدريس، عندما سألتها: هل كانت والدتها الراحلة، السيدة رجاء الرفاعى، تغار على يوسف إدريس، المعروف أنه كان هدفًا للعديد من الجميلات؟، قالت لى: العكس هو الصحيح، والدى كان يغار جدا على أمى ولا تخرج أبدًا إلا فى صحبته، ولا يسمح لها بذلك، على عكس ما يبدو أنه مرن اجتماعيًا، إلا أنه كان شرقيًا متزمتًا فى علاقته مع زوجته. السيدة هدى شعراوى، محررة المرأة، رفضت زواج ابنها من المطربة فاطمة سرى، بل ورفضت حتى الاعتراف بحفيدها منها، تشككت فى الجينات، وضربت كل المبادئ التى كانت تنادى بها لتحرير المرأة، وحقها فى الاختيار وأنه لا فرق بين الغنى والفقير، وغيرها من الأفكار الجميلة والرائعة نظريًا، إلا أنها عندما تناقضت مع رغباتها الشخصية عمليًا (عملت نفسها من بنها).
الموسيقار الكبير رياض السنباطى كان معروفًا عنه أنه لا يعرف المجاملة، حتى أم كلثوم عندما لا يرضيه أداؤها فمن الممكن أن يعنفها أمام الفرقة الموسيقية، وكانت أثناء البروفات خاضعة له تمامًا ولا تقول له سوى (حاضر يا بابا). عندما بدأ ابنه الراحل أحمد السنباطى الغناء والتلحين، وكان الرهان عليه كبيرًا مطلع السبعينيات، حتى إنه لعب بطولة أكثر من فيلم، سألوا السنباطى فى حديث إذاعى عن أحمد، وهل ينافس عبد الحليم؟، أجابهم: هو أفضل من عبدالحليم، والأيام ستثبت ذلك، بينما واقع الأمر أن أحمد برغم تمتعه بالوسامة والموهبة لم يستطع استكمال المشوار الفنى.
لا تستطيع أن تأخذ موقفًا سلبيًا من أبطال كل تلك الحكايات وغيرها، ستظل هناك تفاصيل أخرى ربما تغير مع الزمن تلك الصورة التى استقرت فى أذهاننا، ربما!!.
المصري اليوم