المقاومة: بين الصمود والسلاح…

بعد ٧ أكتوبر، تجلّى الاختلاف التاريخي بين مقاومتين: المقاومة بالصمود أم المقاومة بالسلاح.

هذه الجدلية ليست جديدة، لكنها عادت لتطوف إلى واجهة البحث مع "طوفان الأقصى" وتبعاته المدمرة على أهل غزة وقطاعهم.

فمنذ الانتداب الإنكليزي فالاحتلال الإسرائيلي، وهذه الجدلية قائمة "على أرض خلقت للسلام ولم تعرف يوماً سلاماً" كما يقول محمود درويش.

على منوال غزة، نعيش اليوم مجدداً المخاوف من مصير يحاكي القطاع في الضفة الغربية. ومعها تتزايد التحذيرات والدعوات إلى التروّي والهدوء في التعاطي مع أكبر عملية إسرائيلية هناك منذ أكثر من عشرين عاماً (في محافظات الشمال كجنين وطولكم). ومع هذه الأحداث المستجدة في الضفة، يعود الجدل مرّة أخرى حول آلية مواجهة إسرائيل التي تظهر كل التجارب والانتفاضات والحروب أن لها الغلبة العسكرية. هذه حقيقة وواقع لا يمكن تكذيبه إذا قدّمنا لغة العقل على المشاعر والانفعالية.

يتهم الانفعاليون كما أصحاب الأجندات يتهمون أصوات العقلاء المؤمنين بفكرة الصمود السلمي على حساب المقاومة المسلحة، بالانبطاح والاستسلام وصولاً حتى تخوينهم. وهذا التخوين قد يكون مردوداً لأصحابه في مقارنة للنتائج التي حققتها الدبلوماسية في مقابل ما حققته 7 أكتوبر بنتائجها الكارثية على أهل غزة.

السؤال اليوم ما الحلّ أمام الشعب الفلسطيني؟ ماذا بيد السلطة الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد لهم؟ هل عليهم أن يغيّروا من نهجهم ويدفعوا المواطنين لحمل السلاح ورفع شعار المقاومة المسلحة؟ وإذا كان كذلك، ما النتائج التي يمكن تحقيقها مع عدو يتعطش للمواجهة العسكرية؟ فالجواب يبرز في نتائج ما حققته "المقاومة المسلحة" لأهل غزة والقضية الفلسطينية. فهل نجحت المقاومة المسلحة في قلب موازين القوى وتحرير الأرض وفك الحصار؟ أم أعطت ذريعة لصاحبة الغلبة العسكرية على فرض واقع جديد أكثر تدميراً وقتلاً وتهجيراً؟

قد يقول الانفعاليون كما أصحاب الأجندات إنّ للتحرير ضريبة وثمن. وهذا مفهوم ومعلوم، فقط لو كان الحاصل أتى أو سيأتي بنتائج لا تصب بمصلحة المحتل على حساب الشعب الفلسطيني (والتجارب ماثلة أمام أعيننا ودفع ثمنها أهلنا يومياً بحياتهم وحاضرهم وربما مستقبلهم). أما أن تؤدي تلك "المقاومة المسلحة" للانتقال من حصار إلى احتلال جديد فهذا مرفوض.

بـ"المقاومة المسلحة" لم نحصّل شيئاً. لم يتغيّر أي شيء على مدار عقود. فلننظر إلى غزة. أهلها باتوا بعد 7 أكتوبر إما جثث وأشلاء أو جوعى وعطشى يبحثون عن كسرة خبز وقارورة ماء. أكثر من ٧٠٪؜ من القطاع تدمّر، وما بقي منه لا يصلح للعيش. فالوطن أرض وشعب. إذا خسرنا الاثنين، ماذا يبقى من هذا الوطن؟ إسرائيل تعلم ذلك، وتحتاج من يعطيها ذريعة لتحقيق مرادها. جلّ ما تبحث عنه هو "مقاومة مسلحة" تواجهها بدبابتها ومدافعها وسلاحها المتطوّر لتحوّل كل الأراضي الفلسطينية إلى ما يشبه غزة اليوم.

يبقى "الصمود السلمي" العدو الأوحد لإسرائيل والسلاح الأنجع لأصحاب الحق في مواجهة الباطل. أما الأصواتُ المندفعة (بعضُها عن جهل وأخرى مؤدلجة) التي ترفع شعار الموت من أجل الوطن، فمن دون قصد تحقق بهذه الفلسفة ما تريده إسرائيل وتتمناه يومياً.

لمَ لا يكون الخيار بالصمود من أجل الوطن قبل الموت من أجله؟ لماذا تصوّرون الفلسطيني كأنه يخلق ليموت، لا لأن يعيش من أجل قضيته!

كفى مزايدات وتخوينا لأصحاب "السلمية" على حساب الحل العسكري. فمع آلة القتل المتطورة وصاحبة الغلبة العسكرية، فإنّ الانجرار للحرب معها هي "الخيانة" خصوصاً وأنّ التاريخ أثبت نتائجها الكارثية على شعبنا الصابر. فالساكت عسكرياً قد يكون صاحب الصوت الأعلى دبلوماسياً أمام العالم. تخوّنون أوسلو وعرّابيها في الوقت الذي حققت الدبلوماسية "دولة فلسطين" وجواز سفر عالميا وتذكرة إلى الأمم المتحدة والجنائية الدولية. ولولا الدبلوماسية لنجحت إسرائيل في تحويل صاحب الأرض إلى "قومية" داخل دولتها لا أكثر.

قبل ٧ أكتوبر كانت غزة محاصرة لكنّ أهلها صامدون ويعيشون حياة يومية بما تيسّر. أما اليوم فأين غزة وأهلها وأطفالها وبيوتها؟!

نعم، كان القطاع محاصراً لكننا اليوم نتفاوض ـ بعد أكثر من 40 ألف ضحية حول العودة لما قبل 7 أكتوبر. نتفاوض على ١٤ كيلومتراً كمحور فيلاديلفي، أو على عودة النازحين المنهكين إلى بيوتهم التي لن يجدوها. كلُّ شيء انتهى في أقل من عام. اختفت معالم غزة الشهيرة وقُتل أهلها ودفنوا تحت ركامها.

إلى متى سيبقى الفلسطيني محكوماً بالموت؟ ألم يحن الأوان لتغيير تلك العقلية والمنهجية وتحويلها إلى نضال شعبي اجتماعي؟ يكون فيها كل فلسطيني سفيراً لبلده إلى العالم وفي الترويج لهويته التي لا تقتلها المدافع والدبابات طالما أصحابها متمسكون بالحياة.

هل تعلم أنّ المثقف الفلسطيني أخطر على إسرائيل من المسلّح الفلسطيني؟ فالأول يشكل خطراً لا يمكن مواجهته بالرصاص أما الثاني فتتذرّع بشرعنة قتله ويسهل عليها تبرئة نفسها أمام المجتمع الدولي تحت شعار "أمن الكيان".

ويبقى الصمود هو السلاح الأوحد. ولو أدركوا مدى قوته وفتكه، لحَمَلهُ الجميع…

يقرأون الآن